الحرب والصناعة وصحة الدولة: ما التنمية وما السلام؟
♦️ من الأرشيف
(صحيفة الحداثة، 19 نوفمبر 2020، الصفحة 7)
الحرب والصناعة، وصحة الدولة: ما التنمية، وما السلام؟
قصي منصور
▪️ في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر وأقوى امبراطورية في التاريخ البشري حتى الآن والتي لم يتجاوز مجمل تاريخها 250 عاما بعد، هنالك عبارة مشهورة، وردت من قلم كاتب أمريكي، تقول “الحرب صحة الدولة”
War is the health of the state
وقد يستغرب بعض من يقرأ هذه العبارة، خاصة من بلدان “العالم الثالث” المرزوءة بحروب أكلت مواردها وسفكت دماء أبنائها وشرّدت أهاليها ودمّرت بنيتها التحتية، لكن هذا الاستغراب لن يكون كثيرا بين مواطني الولايات المتحدة، أو ألمانيا أو روسيا أو بريطانيا أو فرنسا، أو حتى اليابان وجنوب افريقيا، وإسرائيل، وغيرها من الدول، ذلك لأن هذه الدول المذكورة لديها تاريخ مجرّب يسند هذه الخلاصة.
على سبيل المثال، لم تشهد الولايات المتحدة، منذ إنشائها وحتى اليوم، حالة عدم انخراط في نزاع مسلّح مباشر إلا ربما لعشر سنوات فحسب (ويُحسَب ذلك باعتبار وجود قوات مسلحة أمريكية تحارب خارج حدودها، وعبر المحيطات، في أي فترة تقريبا)، لكن حالة الحرب المستمرة هذه لم تضر اقتصاد الولايات المتحدة، بل في الواقع أفادته عموما، إذ شغّلت ماكينة اقتصاد الحرب صناعات وخدمات وبحوث تكنولوجية وإحصائية عديدة، جعلت القطاع العسكري لتلك الدولة أحد أكبر القطاعات ثروة ومساهمة في التطور التكنولوجي والتشغيل للقوى العاملة، وما زال.
أيضا، خلال الحرب العالمية الثانية انتعشت الصناعة في ألمانيا والاختراقات التكنولوجية العالية بصورة ملفتة للنظر، فكأن ألمانيا كانت تكبر اقتصاديا وتكنولوجيّا كلما توسّعت عسكريا، ورغم أن ذلك التوسّع انتهى نهاية درامية، مع خسارة ألمانيا للحرب، لكن ما اختزنته القدرات المحلية الألمانية من تقدّم تكنولوجي ونظم إدارة اقتصادية آتى أكُله بصورة ملموسة في مرحلة إعادة إعمار ألمانيا ما بعد الحرب، الأمر الذي يمكن أن نقول إنه ممدود حتى الآن في اقتصادها المعاصر والذي يُعدّ أحد أقوى اقتصادات العالم وربما أقوى اقتصاد أوروبي.
أما الامبراطورية البريطانية فإن حروبها التوسعية في العالم، وحروب ضبطها للمستعمرات وإخماد التمردات والثورات، كانت مربوطة ارتباطا مباشرا بازدهار القطاع الصناعي في مركز الامبراطورية وبعض ضواحيها المختارة، كما ارتبط بامتصاص موارد المستعمرات، ولم يبدأ العجز يظهر في قوة الامبراطورية البريطانية إلا بعد استنزافٍ طويل وتوسّعٍ شاسع، وخسائر الحرب العالمية الثانية (التي كانت كبيرة حتى على المنتصرين، ما عدا الولايات المتحدة) مع صعود قوى عالمية جديدة كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
كذلك، كان نظام الأبارتيد في جنوب افريقيا صاحب قوة اقتصادية بينما كان يحكم أغلبية شعب البلاد بالجبروت، ولوجوده في محيط معادي له – مع بداية حقبة الاستقلال السياسي للشعوب الافريقية – استثمر ذلك النظام كثيرا في الصناعات الحربية وفي النظم الإدارية التي تقوّي من شوكة الدولة، كما استثمر أيضا في بحوث “طبية” (والصحيح أنها كانت بحوث ضد الطب، كمهنة علاجية) لابتكار أسلحة بيولوجية وسرديّات “علمية” (زائفة) تزيد من استمرارية سلطة الأقلية البيضاء؛ وحتى في الوقت الذي ظهرت فيه حملة المقاطعة ضد جنوب افريقيا لم يتأثر اقتصادها كثيرا في البداية بل ضخ حياةً في صناعات أخرى محلية لإحلال الوارد. إسرائيل كذلك استفادت كثيرا من المقاطعة الكبيرة التي قاطعتها لها الدول المجاورة، وعموم محيط العداء من حولها، لأن تلك الظروف جعلتها تدير نفسها بكفاءة عالية كدولة في حالة حرب دائمة، وجعلتها تمدّد سلطات ومهارات لمواطنيها كافة عن طريق التجنيد الإلزامي والتنظيم الذي أورث انضباطا عاما في سجل الدولة وعملها وصناعاتها ومساعي تطوير التكنولوجيا، يضاف لذلك أن تلك الظروف زادت وقوّت من مبرّرات إسرائيل لاستقطاب دعم لوجستي واقتصادي هائل ومستمر ومباشر من خارجها، والنتيجة كانت تطوّرها تطورا اقتصاديا وتكنولوجيا وإداريّا كبيرا وسريعا بصورة ما كانت في الراجح أن تكون لولا توفّر تلك المعادلة لها عبر العقود السابقة.
أما اليابان فهي كانت أيضا دولة استعمارية بالنسبة لجيرانها وكان توسّعها الحربي ذلك ذا عائد ملموس على ترتيب اقتصادها الداخلي وقدراتها الإدارية المحلية بصورة جعلتها متفوّقة على جيرانها إلى أن جاء من هو متفوّق عليها في اقتصاد الحرب نفسه (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) وأنهى عهدها الاستعماري، لكنها استفادت كذلك من إرثها ذلك في عملية إعادة الإعمار، مثلما فعلت ألمانيا.
- الطيب عبد الماجد: (نحنا أهل الواطا ذاتا)
- أعصاب “العطا” وأحلام “البرھان”
- البرهان يغادر السودان
- في مُقدمتهم قادة وأعضاء تنسيقية “تقدُّم”.. السودان يُخاطب 6 دول لتسلِيم مُتهمِين وناشطين ومتطوعين
- الجميل الفاضل لـ(الشرق الأوسط): واشنطن تسابق الزمن لإحراز نجاح يجنبھا الخيارات الصعبة
إذن، هنالك ما يكفي من القرائن التاريخية لنقول إن خلاصة “الحرب صحة الدولة” خلاصة مسنودة بالأدلة.
لكن، ما الذي يجعل الحرب كذلك لبعض الدول ثم هي وبالٌ وشرٌّ على دول أخرى؟
الإجابة قد تكون قصيرة أو طويلة، لكنها ليست كاملة على أي حال؛ أي ليست مستوفية وواثقة تمام الثقة.
الإجابة القصيرة هي أن البلدان ذات الاقتصاد الزراعي تحتاج للاستقرار السياسي – أو غياب الحرب – أكثر من البلدان ذات الاقتصاد الصناعي، لأن الأخيرة يمكنها تدوير ماكينات الصناعة حسب احتياجات الحرب نفسها وبالتالي فهي قد تستفيد من الحرب في خلق استهلاك ينشّط الصناعة.
والإجابة الطويلة تتجه عموما إلى شرح أن علاقات القوى، والقدرات التكنولوجية، وجغرافيا الحرب، والفعالية اللوجستية والإدارية، وسلاسل قيمة الإنتاج والاستهلاك للسلع والآلات والأسلحة، كلها عوامل تتضافر لتجعل بعض بلدان العالم اليوم لها مصلحة اقتصادية في نشوب الحروب واستمرارها بينما البعض الآخر يخسر ويعاني، بشريّا واقتصاديّا وتنمويّا، من الحروب بحيث أن مصالحه الأساسية مرتبطة بتقليل النزاعات المسلّحة والمزيد من الاستقرار السياسي والاجتماعي، ليس في حدودها الجغرافية فحسب وإنما حتى في منطقة جوارها العام.
لأجل ذلك فالسلام في السودان، مثلا، مهم لأجل تقدم قطار التنمية ولأجل تعافي الاقتصاد؛ بل والسلام في إثيوبيا كذلك مهم جدا لنفس السبب للسودان أيضا وليس لإثيوبيا فحسب؛ وعلى ذلك قِس.
ولأجل ذلك أيضا فحين نذكر السلام هنا إنما نتحدث عن سلام حقيقي، غير سطحي أو مبتسر، لأن السطحية والابتسار لا تظهر نتائجها في الواقع، فالاقتصاد والتنمية والتعايش السلمي ظواهر موضوعية، ملموسة، لا تنخدع بالورق ومحتوياته إذا لم تتجسد على أرض الواقع. كيف إذن نعرف السلام؟ نعرفه بثماره؛ كما نعرف التنمية بثمارها.