الأخبار

«خُبْزٌ عَلَى طَاوِلَة الخَال مَيْلَاد» ثُنائيَّةُ المَوْرُوثِ الشَعْبيِّ ومُصَادمَةُ المُجْتَمَع

44

بقلم محمد الخير حامد

«خُبْزٌ عَلَى طَاوِلَة الخَال مَيْلَاد» ثُنائيَّةُ المَوْرُوثِ الشَعْبيِّ ومُصَادمَةُ المُجْتَمَع

الذي يقرأ رواية «خُبز على طاولة الخال ميلاد» للكاتب الليبي محمد النعَّاس، الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية 2022م)، يلاحظ أن الرواية بُنيت على فكرة أساسية، هي مراجعة ومناقشة أمثولة شعبية مطروحة وراسخة بالمجتمع الليبي. تجسَّدت المقولة في عبارة: «عيلة وخالها ميلاد»، وهي مقولة يعيرون بها في ليبيا الرجل ضعيف الشخصيَّة في عائلته، ويصفون بها من لا يملك السلطة على نسائه، ولا يخفى أيضًا، بأن ذات العبارة تقدح في أخلاق النساء أنفسهن.

هيكل ومبنى الرواية تشكَّل على مناقشة الأمثولة التي ذكرتها، مع طرقه لموضوعات مستقاة من أمثولات شعبية أخرى، قريبة منها، ومتماهية معها.

القارئ للرواية يلحظ أنها حاولت أن تراجع عددًا من المقولات الشعبية، أو تهز اليقينيات فيها، حدث ذلك بجُرأة وبسالة سرديتين، تُحسد عليهما الرواية، ويشكر عليهما الكاتب، لكن هل نجحت الرواية، أم فشل مؤلفها في هذا المسعى!!؟ فذلك أمر آخر..

فمع المثل الشعبي الذي أشرت إليه آنفًا؛ ناقشت الرواية مقولتين شعبيتين ليبيتين، تؤطران لذات المعنى والمدلولات الشعبية المتماهية معه، وأقامت عليهما سرديتها ومراجعتها، لكن بزوايا أكثر وضوحًا وبتوجيهها لسهام حادَّة نحو الرجل. من ذلك المثل الذي يقول: «تعيش يوم ديك ولا عشرة دجاجة» وهو مثل ليبي شائع عن الرجولة، ومعناه أن يعيش المرء رجلًا وصاحب مواقف وشجاعًا يومًا واحدًا، أفضل له من أن يعيش عشرة أضعاف عمره خائفًا وذليلًا كالدجاج. والمقولة الثالثة التي وضعتها الرواية تحت مختبر سرديتها؛ حملت رؤية المجتمع تجاه علاقة الرجل بالمرأة (الزوجة بالأصح)، وتقول: «الفرس على راكبها» وهي مقولة واضحة، تحدد شكل التواصل بين الرجل وزوجته وتؤطِّرها في علاقة التابع بالمتبوع، وتفترض أن المرأة تتخلَّق بأخلاق زوجها، وأنه من يربيها بعد أبيها. على هذه الأمثولات الشعبية الراسخة في المجتمع الليبي بُنيت حكاية الرواية، وحيكت حبكتها، ودخلت في حربها مع المجتمع.

أما على مستويات الأنساق الثقافية؛ فالرواية قدمت رؤيةً ذكوريَّة بحتة وصادمة حول النظرة للمرأة. قدمت نظرة المجتمع الذي لا يرى فيها إلا ذلك الكائن الذي يستحق الضرب والتأديب والإذلال. يمكن قراءة ذلك النسق بما جاء على لسان العبسي بن عم ميلاد، وهو يوصي قريبه وصديقه بطل الرواية: «النساء يرعبهن الحزام، الحزام هو سلاح الرجل القاهر…»، وتجسَّد النسق الإذلالي الذكوري أكثر وضوحًا في تحريضه على ضرب زوجته زينب التي بدأ يشك في سلوكها: «عُد إلى البيت، خُذ حزامك واجلدها به بلا مقدمات، لا تبرر لنفسك، أو لها، بأنك تضربها لأنها تخونك، فقط أجلدها وسترى… ستطيعك في كل ما تقوله حتى لو قلت لها أن تقتل نفسها، افعلها يا ميلاد»، ثم «تذكَّر يا ميلاد، اضرب القطُّوسة تخاف العروسة.. القطة هي زينب».

الرواية أيضًا قدَّمت المرأة في صورتها المغوية والزانية والخائنة (زينب والمدام)، واحتفت بالجنس خارج الأطر الشرعية، مُتَّبِعةً رؤية تبناها عم البطلة زينب – زوجة ميلاد- وتبنتها هي كذلك لاحقًا، فقد كان العم يرى بأن الزنا هو مضاجعة المرأة من دون حُبِّ، وأطَّرت الرواية لذلك من خلال تساؤلات زينب، التي كانت تطرحها أمام زوجها ميلاد في كلِّ مرَّة، وتسأله عن سبب زواجه منها، وشكّها المستمر بأنه جاء بسبب معاشرتِه الجنسيَّة لها قبل الزواج، أي تكفيرًا عن خطأ وليس على سبيل الحُبِّ.

وفي «خبز على طاولة الخال ميلاد» برز صراع الثنائيات والمتناقضات: العلم والجهل، الوفاء والخيانة، الانتماء والانسلاخ، القوة والضعف، التحدي والانكسار، البقاء والفناء، التفاؤل والتشاؤم.. الانتصار والإحباط، المواجهة والانتقام، التمسُّك بالحياة والانتحار..

فبطل الرواية ميلاد ظل وفيًّا لزوجته ولم يصدِّق حديث صديقه العبسي عنها، بالرغم من أنه شاهدها تجلس مع الرجل المعني في المقهى، وعندما وجدهما يجلسان ويتحدثان معًا عاد ورمى بنفسه من حالق فكُسرت قدمه، لكنه لم يخنها حتى خانته هي، وبعدها أحبِط وانتقم منها بالخيانة أيضًا. وميلاد نفسه عانى من الضعف بعد القوَّة، وانسلخ من أهله وأشقائه بعد اكتشافه لتصرفات شقيقته، وعاش الإحباط والانكسار وحاول الانتحار أكثر من مرَّة بسبب زوجته والمجتمع.
والمدام صديقة زينب المُقرَّبة خانتها أيضًا مع زوجها ميلاد، فهل الخيانة أنثى والوفاء رجل؟ لا أدري!!..

على الجانب الفنِّي الخاص ببناء الشخصيات؛ قدمت الرواية البطل «ميلاد»، الرجل الخبَّاز، الفاشل؛ والمنهزم أمام معايير الرجولة التي وضعها المجتمع، والذي تجسَّد فشله في الانهزام والانكسار ورضاه بأن تعوله زوجته، وبقائه عاطلًا بالبيت، وقبل ذلك؛ بسلوكياته منذ الصغر وعدم قبول والده لسلوكياته، فقد كان يصنع حلوى تنظيف الشعر لشقيقاته، ويساعدهن في نزع شعر أرجلهن، وتنظيف البيت، وفيما بعد الزواج صار يقوم بمهام غسل وكي الملابس، وترتيب البيت والمطبخ، وتحضير مستلزمات زوجته، وصنع الشاي لها قبل خروجها إلى العمل.

ما يُحمد للرواية أنها أضاءت منطقة مظلمة بالنسبة للقارئ العربي، الذي ربما تعرَّف من قبل على بيئات سردية عربية وقرأ عنها بكثافة: (مصر، لبنان، سوريا، العراق، السعودية، الخليج العربي، المغرب العربي..) من خلال كثافة المطبوع والمنشور وشهرة كتاب هذه المناطق، لكن أدباء ليبيا لم يكن حضورهم في السابق بذات الكثافة، رغم شهرة الكوني وبروز نجوى بن شتوان، فقدمت الرواية خدمةً جليلة للأدب الليبي، ومن خلالها تعرَّفنا على مصلحات ومسميات شعبية مثل: «الكوشة» التي تعني في ليبيا فُرن الخباز، و«البرَّاكة» وهي المسكن الخارجي الذي يُصنع من الصفيح والخشب.

ختامًا أقول: رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» استحقَّت ما أثارته من ضجَّة وما أسالته من حبر، كما أنها حَرْيَّة بما نالته من حظوةٍ فنيَّةٍ وتقديرٍ واهتمام من النُقَّاد، وكل ذلك جاء بما تجسَّد فيها من براعةٍ حكائيَّةٍ وفَنٍّ سرديٍّ جميل، وبناء محكم ومتقن للشخصيات، وبما حفلت به من تشويق وجذب للقارئ، وقبل ذلك؛ بما فيها من مقاربة سردية ورؤية عميقة صارعت المجتمع وقدمت ما تراه صائبًا. ولا أعيب عليها إلَّا بعض مفرادتها الخادشة والتي جاءت بشكل صادم ومباشر، وكان بالامكان التغاضي عنها، سواء بالحذف، أو بالإشارة والتضمين، وكل ذلك بما لا يضر السرد أو يقلل متعة الحكي.

أكتب تعليقـكـ هنــا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد