سيطرة مليشيا الدعم السريع على المثلث.. خطوة رمزية أم واقع مؤجل؟

0

مقالات

سيطرة مليشيا الدعم السريع على المثلث.. خطوة رمزية أم واقع مؤجل؟

الانفصال الإداري … كارثة سقوط المدن عسكرياً تمهيد لفصل إداري للمدن وليس فصل سياسي للأقاليم 7

بقلم : احمد بن عمر

بعد قطيعة رسمية أعلن عنها قائد المليشيا محمد حمدان دقلو تجاه مصر في خطابه الشهير بأكتوبر 2024، عاد الرجل نفسه في يونيو 2025 ليعلن خفض التصعيد، قائلاً: “نحن نحترم جيراننا المصريين، وأي مشكلة يمكن أن تُحل بالحوار والنقاش”.

لم يكن هذا الخطاب مجرد نبرة تصالح، بل جاء بعد أيام قليلة فقط من إعلان قوات الدعم السريع سيطرتها على مثلث العوينات الحدودي بين السودان وليبيا ومصر، وهو ما أضفى على حديث دقلو بُعدًا استراتيجيًا غير معلن.

في خطابه ذاته، أشار دقلو إلى أن السيطرة على المثلث يمكن أن تشكل “إضافة إيجابية لجيران السودان” عبر تأمين الحدود التي وصفها بأنها أصبحت بؤرة للإرهاب والتهريب والمخدرات والاتجار بالبشر.

لكن هذا التبرير، الذي يحمل طابعًا أمنيًا، يخفي خلفه رغبة واضحة في فرض معادلة سياسية–اقتصادية جديدة في المنطقة.

إذ لم يأتِ إعلان التهدئة مع مصر في فراغ، بل تزامن مع تصاعد الحديث داخل تحالف “الميثاق السياسي” الذي تقوده قوات الدعم السريع عن نية تشكيل “حكومة تأسيسية” في مناطق سيطرتها، وهو ما يُفهم كخطوة ضمن مشروع “الانفصال الإداري” بحكم الواقع، لا بالقانون.
وهنا تُطرح الأسئلة الجوهرية التي يسعى هذا المقال للإجابة عنها:

هل تقود المليشيا تحركًا تكتيكيًا لكسب شرعية إقليمية من مصر؟ أم أن السيطرة على المثلث هي الخطوة الأولى لتحويل المنطقة إلى نقطة نفوذ تجاري–أمني بديل عن الدولة؟
وما الذي يعنيه فعليًا أن يُبنى هذا المشروع عند تقاطع مصالح ثلاث دول (مصر، ليبيا، تشاد) ؟


في هذا المقال، نحاول قراءة هذه التطورات المتسارعة من زوايا متعددة: خطاب المليشيا، ردود فعل الجيش السوداني، ديناميات التحالف الإقليمي، والأهم من ذلك، الاقتصاد كأداة لصياغة سلطة موازية تتجاوز مؤسسات الدولة.

▪️ ولكن كيف يمكن ان نقرأ هذه الاحداث؟
عقب هزيمة قوات المليشيا منطقة جبل مويا بولاية سنار من قِبل الجيش، اتهم دقلو مصر بمشاركتها جوياً في المعركة التي سهلت للجيش سيطرته علي المنطقة ، و خرج بخطة اسمها الخطة (ب)، وقد حللت لاحقاً خطوته بتصعيد اقتصادي في المقام الاول ضد مصر، أوقفت قوات الدعم السريع عشرات الشاحنات والسيارات المحملة بمحصول الفول السوداني وزيته، الذي تنتجه المنطقة بكميات كبيرة، على الطريق المؤدي من محليات شرق دارفور إلى مدينة الدبة في الولاية الشمالية. حيث ظهر أحد القادة الميدانيين التابعين للدعم السريع، يُدعى “عبدالله ضو النور”، في فيديو بجانب هذه الشاحنات التي تم إيقاف تصديرها.

‏‎رغم الجهود والوساطات التي قادتها الإدارات الأهلية والتجار في شرق دارفور لإقناع قوات الدعم السريع بالسماح برفع حظر حركة ترحيل المنتجات، خاصة محصول الفول السوداني الذي يُعد المحصول النقدي الأول لسكان المنطقة، إلا أن هذه المساعي لم تؤتِ ثمارها حتى الآن، مما يزيد من حدة التوتر والتحديات المجتمعية والاقتصادية في المنطقة.

‏‎والسلع التي قرر الدعم السريع ايقافها للتصدير (داخليا) الي مناطق سيطرة الجيش و (خارجياً) عبر معبر حلفا الحدودي الذي يربط بين السودان و مصر, فقد صدر القرار بالرقم (15/2024) من قبل المجلس الاستشاري لقائد المليشيا، ليوقف السلع و هي 12 سلعة، تشمل الصمغ بأنواعه، الفول السوداني، زيت الطعام، الماشية، السمسم، التمباك، أنواعًا من الأعلاف، الذهب، المعادن الأخرى، الكركديه، والبامية المجففة.

▪️ ولكن ماذا يمثل عودة العلاقات مع مصر؟
ان التصعيد التجاري الذي انتهجته المليشيا ليس الهدف منه مصر، بل الهدف منه خنق الحكومة ومنعها من الرسوم الحكومية ورسوم الحركة التجارية ويظن مستشاري حمديتي ان جميع السلع الخارجة من المناطق التي يسطيرون عليها تذهب لمصر بعد استفادة الحكومة منها

ولكن بعد الارهاصات التي تحدثت عنها سابقاً في كون مليشيا الدعم السريع عبر تحالفها تأسيس تنوي اقامة حكومة سياسية موازية كان لابد من دقلو ان يخرج ويرسل رسالة سياسية للجميع باعلان نيته للتفاوض مع مصر للأسباب التالية:

  1. إرسال رسالة تهدئة لمصر بعد التصعيد التجاري السابق
    رغم أن التصعيد الاقتصادي الذي مارسته المليشيا – بمنع مرور 15 سلعة رئيسية من السودان إلى مصر – بدا في ظاهره موجّهًا ضد القاهرة، إلا أن الهدف الحقيقي كان خنق الحكومة الرسمية في الخرطوم ومنعها من جباية الرسوم الجمركية في المعابر التي فقدت السيطرة عليها.
    فالدعم السريع، عبر خطته المعروفة بـ”الخطة ب”، خطة الانفصال الإداري سعى إلى:
  • منع الحكومة من فرض رسوم التصدير والعبور وحرماناها من السلع المهمة التي تأتى من إقليم دارفور وكردفان.
  • تأسيس نظام بديل للتجارة العابرة يخدم مصالحه، خاصة عبر بورصة واردات بديلة في المثلث الحدودي باختيارها كمنطقة تجارية حدودية كبورصة لديها كمنطقة جغرافية مقومات (منطقة تجارية قائمة علي التهريب).

لكن هذا التصعيد تطلب لاحقًا مخرجًا دبلوماسيًا مع مصر لتفادي القطيعة الكاملة، وخصوصًا بعد تصاعد المؤشرات حول نية مليشيا الدعم السريع إعلان حكومة سياسية موازية تستند علي امداد كامل للسلع الاستهلاكية التي تستورد من مصر كدولة سيتم الاعتماد عليها مدة طويلة في توفير الوارد بالنمط الحدودي القائم علي التهريب العشوائي, وايضاً لخبرة التجار علي مدي عامين في التعامل مع المنتجات المصرية ومعرفة سياسات التسعير والكميات و كيفية تأثير هذه السلع عند المستهلكين.

  1. تهيئة الأرضية لاعتراف ضمني بالحكومة الموازية من طرف القاهرة
    التحالف الذي يقوده الدعم السريع لا يسعى فقط إلى السيطرة الميدانية، بل إلى تحقيق قبول سياسي إقليمي بحكومته المزمع إعلانها من خلال الخطة (ب) خطة الحكومة الموازية .
  2. وفي هذا السياق: إعادة العلاقات مع مصر تحمل نوايا “التموضع التفاوضي”، أي: عرض شراكة حدودية–أمنية–تجارية لمصر مقابل غضّ الطرف عن تشكيل حكومة موازية في الغرب، والضغط علي مصر لحث البرهان علي تفاوض تكسب منه المليشيا نقاط تقدمية، وهو واحد من أهم الاسباب لتشكيل الحكومة الموازية.

مصر، التي تربطها مصالح بليبيا (وخاصة بخليفة حفتر حليف مليشيا الدعم السريع)، قد تكون أكثر انفتاحًا على التعامل البراغماتي مع الواقع الجديد إذا ضمن لها الاستقرار على حدودها الجنوبية، فدقلو وتحالفه يعرف تماماً ان حفتر، وبالرغم من عدم الاعتراف بحكومته الا ان مصر قررت التعامل معه بسبب ان السيسي لديه اولوية حساسة في حماية مصالح حدودها, فتشكيل واقع سياسي قائم علي فرض المصالح يجب ان يقرأ كخطة تكاملية لوضع المناطق التي تسيطر عليها المليشيا.

  1. كسب الوقت لإعادة تنظيم الاقتصاد الرمادي وضمان استمرارية الإمداد
    في ظل الحصار المالي الدولي وتجميد أصول شركات مليشيا الدعم السريع، فإن فتح قناة تبادل مع مصر الهدف ليس منه المليشيا انما المناطق التي تسيطر عليها لاسباب:
    -تأمين تدفق الوقود والسلع الغذائية من أسواق مثل أسوان وشرق العوينات .
    -الاستفادة من “سوق الرماد” الليبي في تهريب الوقود والامداد السلعي والسلاح، ومن السوق المصري في تصريف الذهب والماشية والسلع الغذائية ومدخلات الزراعة .

فالعودة لمصر ليست فقط سياسية، بل جزء من استراتيجية “تنويع طرق الإمداد” وربط الحكومة الموازية بأسواق الجوار واستقلالها من الاسواق تحت سيطرة الحكومة في الشمال مثل (سوق الدبة) الذي يمثل نقطة عبور للسلع من والي المناطق التي تسيطر عليها المليشيا و لتتمكن ايضاً من فرض نظام “جبايات للطرق” .

  1. احتواء مخاوف مصر من سيطرة لاعبين غير مرغوب فيهم على حدودها الجنوبية
    قد يكون خطاب دقلو الموجه للقاهرة مشفّرًا برسالة ضمنية تقول:
    “نحن اللاعب الأكثر قابلية للتعامل، فدعمنا يخدم مصالحكم الأمنية والتجارية أكثر من انفلات الأوضاع أو سيطرة الجيش أو مجموعات مدعومة من أو الإسلاميين.”

وبالرغم من انكاري لهذه النقطة الا ان حمديتي الذي يتسند خطابه لمعادات الاخوان المسلمين وتنظيماته العسكرية الا انها ورقة دائماً ما تكون مهدد عند ارفاقها بعمل عسكري، فحميدتي لديه خبرة في التعامل مع تلك الممرات سابقاً عندما كان شريك في تامين (الهجرة غير الشرعية ومكافحتها)، فالافضل لمصر حسب فكرة دقلو وحكومة تأسيس ان يتواجد في حدودها قوات يمكن التفاهم معها والقيام بعمل استخباراتي مشترك لحفظ المنطقة وتوفير ضامن مصل حفتر لتحييد هذه القوات من اقامة اي خطر حدودي، بهذا المعنى، فإن الدعم السريع يسعى لتحويل نفسه من تهديد محتمل إلى حليف ضروري لمصر، مثلما تحوّل حفتر إلى شريك في ضبط حدودها الغربية.

  1. دعم الخطاب الجديد للتحالف التأسيسي: من التمرد إلى الدولة
    بعد إعلان بعض مكونات “تحالف تأسيس” بقيادة رئيس مجلسها الرئاسي محمد حمدان دقلو نيتها تشكيل حكومة موازية، أصبح من الضروري كسر صورة المليشيا المتمردة المعزولة، وتعزيز صورة “الفاعل السياسي المسؤول” القادر على التفاوض مع الجوار، وليس فقط فرض السيطرة بالقوة.

وبالتالي، فإن إعلان دقلو عن الانفتاح على مصر يُستخدم كـ:

  • تكتيك شرعنة خارجي وتفاهم مع حليف البرهان الاول
    -علامة على الجاهزية السياسية للحكم في المناطق المسيطر عليها .
  • رسالة للداخل السوداني بأن الحكومة الموازية القادمة ليست مغلقة، بل منفتحة على الإقليم والدول المجاورة و لدينا صيغة في التعامل مع الخارجها اولها حليف الجيش مصر .

▪️ أهمية المثلث الاستراتيجية في مشروع حكومة دقلو
ان سيطرة مليشيا قوات الدعم السريع على مثلث العوينات الحدودي في يونيو 2025 لا تُفهم فقط كخطوة عسكرية، بل يجب قراءتها في سياق مشروع أشمل تسعى من خلاله إلى فرض نظام تجاري موازٍ يعكس تطلعاتها لتأسيس حكومة مسؤولة فعليًا عن السكان في مناطق سيطرتها.

فالمثلث، الذي يشكّل نقطة التقاء استراتيجية بين السودان ومصر وليبيا، يُعدّ منفذًا مثاليًا لتحويله إلى منطقة تبادل تجاري عابر للحدود، تتدفق عبرها السلع من الشرق الليبي (خاصة من مدينة الكُفرة) مع محاولات لربطها بالأسواق المصرية (مثل أبوسمبل وشرق العوينات)، في مقابل تصدير الماشية الحية والمحاصيل الزراعية من إقليم دارفور والذهب المنتج في مناطق جنوب دارفور بصورة خاصة .

▪️ لكن الأهمية الاقتصادية للمثلث لا تبدأ من لحظة السيطرة عليه بل تعود إلى السنوات السابقة للحرب، حين أصبح هذا المعبر الصحراوي أحد أبرز خطوط الإمداد غير الرسمية لقوات الدعم السريع. فقد وثّقت تقارير Conflict Armament Research وSmall Arms Survey منذ عام 2021 أن المثلث استُخدم كمسار ثابت لتهريب الوقود الليبي الرخيص، قطع الغيار، الذخائر، وأجهزة الاتصال، وكلها دعمت بقاء قوات الدعم السريع ميدانيًا وساهمت في تمويل شبكات الولاء العسكري والتجاري. هذه الشبكة غير الرسمية، التي اعتمدت على وسطاء محليين وشركات ظل، كانت بمثابة البنية التحتية الخفية التي يجري الآن تحويلها إلى بنية تنظيمية علنية تحمل ملامح “دولة تجارية”.
كن الأهمية الاقتصادية للمثلث لا تبدأ من لحظة السيطرة عليه.

وفي عام 2022، أخذت تجارة الوقود عبر المثلث طابعًا أكثر تنظيمًا وعلنية، حيث استفادت المليشيا من فروق الأسعار الكبيرة مقارنة بالسوق المحلي، ما جعلها أحد أبرز اللاعبين في السوق الرمادية للوقود في دارفور. ومع اندلاع الحرب في أبريل 2023، وتوسّع سيطرة الدعم السريع على الولايات الأربع في دارفور، أصبحت الإمدادات القادمة من ليبيا عبر هذا المثلث شريانًا لوجستيًا رئيسيًا. وقد أشرف على هذه العمليات بشكل مباشر قيادات رفيعة في المليشيا، أبرزهم عبد الرحيم دقلو، ما أضفى عليها طابعًا مؤسسيًا،
استراتيجيًا، نشطت في هذه الفترة مجموعات تابعة لمليشيات حفتر في تقديم دعم مباشر للدعم السريع، شمل توريد الوقود، وتسهيل حركة التجارة، خصوصًا مع تجار مدينة نيالا المرتبطين بدقلو. هذه العلاقة المتشابكة بين المسلحين والتجار عززت من قدرة المليشيا على الحفاظ على خطوط الإمداد، وأعطتها هامش مناورة اقتصادي مستقل عن الدولة.

ولذلك، فإن أهمية المثلث في عام 2025 لا تتوقف عند كونه موقعًا حدوديًا، بل تتجاوز ذلك لتجعله ركيزة محورية في مشروع حكومة دقلو الموازية.

فبناء بنية تحتية علنية فوق شبكة قديمة من اقتصاد الظل، هو ما يسمح بتحويل هذا المعبر من مجرد نقطة تهريب، إلى منصة تصدير واستيراد تخدم كيانًا سياسيًا غير معترف به يسعى إلى ترسيخ انفصال إداري عبر أدوات اقتصادية وسيادية بديلة.

في هذا السياق، تُصبح فكرة إنشاء “بورصة واردات” أو “نقاط تبادل حدودية” ليست مجرّد مبادرة اقتصادية، بل جزءًا من استراتيجية أوسع لإعادة بناء السيادة من الأسفل عبر الاقتصاد، ما يُعرف بـ “De Facto Sovereignty” أو السيادة بحكم الواقع. فحين تقوم سلطة غير معترف بها بتنظيم المعابر، فرض الرسوم الجمركية، تنظيم التجارة، ومنح تصاريح الاستيراد والتصدير، فإنها تمارس عمليًا وظائف الدولة الاقتصادية، وتقدّم نفسها كسلطة بديلة “فعالة” وقادرة على حماية مصالح المجتمعات المحلية والتجار والمزارعين.

ويتوقّع أن يتخذ هذا المشروع طابعًا مؤسسيًا تدريجيًا، عبر تشكيل هيئة أو لجنة تجارية تابعة لـ”الحكومة التأسيسية” التي يروّج لها تحالف الدعم السريع–المدني. ويجري الحديث عن نظام جمركي موازٍ يشمل تحصيل الرسوم على البضائع العابرة، إصدار تصاريح للتجار، وإنشاء أسواق حدودية منظمة، بما في ذلك أسواق لتداول الماشية، الحبوب، وقطع الغيار والذهب .

هذه الهيكلة ستعزز استقلالية الدعم السريع إداريًا وماليًا عن الحكومة المركزية، وتمكنه من تمويل نشاطه العسكري والسياسي دون الحاجة للموارد السيادية الرسمية.

من جانب آخر، يُلاحظ أن المسار المصري – رغم أهميته الجغرافية – لم يتبلور حتى الآن كمصدر إمداد فعلي أو حليف اقتصادي مباشر في المشروع التجاري الجاري.

فحتى لحظة كتابة هذا التحليل، لا توجد مؤشرات رسمية أو عمليات موثقة تُثبت انخراط مصر في توفير السلع أو تسهيل حركة التجارة عبر المثلث. ومع ذلك، فإن خطاب الدعم السريع وتصريحات حمدان دقلو الأخيرة تشير إلى رغبة واضحة في فتح منفذ تجاري باتجاه مصر، وتحويل المثلث إلى نقطة تواصل اقتصادي شمالية بديلة عن المسارات الشرقية والغربية.

هذا التباين بين نوايا الدعم السريع وغياب الدور المصري الفعلي قد يُفسر في إطار التحفظ التكتيكي من جانب القاهرة، والتي تراقب تطورات المشهد دون الاندماج الكامل فيه، على الأرجح لاعتبارات مرتبطة بعلاقتها المعقدة مع الجيش السوداني، أو خشية الظهور كطرف يدعم قوى متمردة على الدولة المركزية. في الوقت نفسه، فإن سكوت مصر وعدم عرقلة التحركات عبر المثلث قد يُقرأ كقبول غير معلن بالأمر الواقع الجديد، دون أن يُفسّر على أنه دعم مباشر.

وعليه، فإن مشروع الدعم السريع لفرض نظام تجاري في المثلث يُمكن وصفه بأنه تحرك أحادي الجانب حاليًا، يستند على الخبرة السابقة في خطوط الإمداد الليبية، مع محاولات مستقبلية لربط المسار المصري ضمن خارطة التبادل الحدودي، إذا توفرت الظروف السياسية المناسبة، أو تحققت تسويات غير معلنة مع القاهرة.

كما يُستخدم هذا المشروع كأداة لكسب الشرعية المحلية. فمربي الماشية والتجار في دارفور، الذين تضرروا من تدهور قنوات التجارة الرسمية، يُقدَّم لهم المشروع على أنه منصة إنقاذ اقتصادي، تتيح لهم تصدير سلعهم واستيراد احتياجاتهم دون المرور بالخرطوم أو دفع رسوم متعددة لصالح جهات رسمية.

وبحسب تقديرات ميدانية، فإن قيمة التجارة غير الرسمية عبر المثلث سابقًا كانت تتجاوز 100 مليون دولار سنويًا، وهو رقم يُبرز حجم المصالح المرتبطة بتقنين هذه الشبكة وتحويلها إلى منظومة مؤسساتية.

ورغم إدراكي لطبيعة التضاريس الوعرة والمخاطر الأمنية في هذه المناطق الصحراوية المفتوحة، إلا أن ما يبدو جليًا هو أن قوات الدعم السريع – بوصفها حكومة مليشيا – لا تبحث عن حلول بديلة أكثر استقرارًا أو تكاملًا، بقدر ما تسعى إلى خلق استقلال تجاري عن مناطق نفوذ الجيش.

وهذه المقاربة الاقتصادية تعود جذورها إلى ما قبل إعلان الحكومة التأسيسية، حين بدأت محاولات إنشاء “قنوات بديلة” لتدفق السلع، كأداة لفك الارتباط المالي والإداري مع مؤسسات الدولة المركزية. وبهذا المعنى، فإن الانفصال الإداري الذي تروّج له هذه القوى يجد جذره الأول والأعمق في فك الارتباط الاقتصادي، لا في الانفصال السياسي المباشر, قد تكون هذه الخطوة طموحة ضمن استراتيجية طويلة الأمد، لكنها تصطدم في جوهرها بواقع دارفور، الإقليم الذي أنهكته حرب مستمرة منذ عام 2003، وأفقدته بنيته التحتية، ومقوماته اللوجستية، وشبكاته التجارية المنظمة، وهو ما يجعل من هذا المشروع أكثر هشاشة مما توحي به شعاراته السياسية.

▪️ التخوفات الأمنية للجيش السوداني من السيطرة على المثلث والتحالفات الداعمة لدقلو
مثّلت سيطرة قوات الدعم السريع على مثلث العوينات الحدودي في يونيو 2025 تطورًا استراتيجيًا بالغ الخطورة في تقديرات الجيش السوداني، إذ لم تُقرأ هذه الخطوة كمجرد تحرك ميداني، بل كمؤشر على تشكّل منطقة نفوذ مسلحة تمثل نواة مشروع “الانفصال الإداري”، وهي بمثابة إعلان غير مباشر عن قيام كيان اقتصادي–أمني موازٍ للدولة المركزية.
الجيش يرى في هذا التوسع تهديدًا مباشرًا للعمق الشمالي، إذ تُعدّ منطقة المثلث بوابة مفتوحة نحو الولاية الشمالية، ومعبرًا حيويًا للسلع والذخائر والوقود القادمة من ليبيا. وقد عبّر الفريق عبد الرحمن عبد الحميد، والي الولاية الشمالية ورئيس لجنة أمنها، عن هذا القلق في خطاب جماهيري، مشددًا على ضرورة التنسيق الاستخباراتي والمجتمعي لاحتواء التهديد، خاصة بعد توغل قوات الدعم السريع في منطقة كرب التوم.

وفي بعد إقليمي أكثر عمقًا، جاء الاجتماع الثلاثي الذي جمع السيسي بالبرهان وحفتر في العلمين ليكشف مستوى القلق الرسمي. إذ تحدث البرهان بلهجة حادة تجاه حفتر، منتقدًا تدخل قواته – لا سيما كتيبة السلام – في دعم السيطرة على المثلث، وهو ما رآه الجيش السوداني امتدادًا لصيغة دعم خارجي للمليشيا، يفتح الباب لتقويض سيادة الدولة , ولا حقاً الجولة التي قادها ياسر العطا و نجل حفتر مع الوجود المصري حول نفس القضية , اتسمت الاجتماعات بالسرية.

وبعد لقاء العطا , جاءت زيارة صدام حفتر المفاجئة إلى العاصمة التشادية إنجمينا في أغسطس 2025 لتؤكد مخاوف الجيش السوداني من تشكّل تحالف ثلاثي حدودي (حفتر – ديبي – دقلو) يعيد ترتيب المعابر والتوازنات في الشريط الحدودي الغربي خارج إشراف الدولة المركزية.

وعلى الرغم من أن الرئاسة التشادية تحدثت عن ملفات تتصل بالتجارة والمهاجرين، فإن خلفية الزيارة، وتوقيتها بعد سقوط المثلث، يُظهران انخراطًا فعليًا في ترتيبات ميدانية تتجاوز الإطار الدبلوماسي و تعمل علي إيجاد صيغة توافقية لترتيبات في المنطقة تبني بشكل المصالح.

وفي هذا الصدد، يُعتبر الرئيس محمد إدريس ديبي لاعبًا محوريًا في هذا التحالف، ليس فقط لأسباب أمنية تتعلق بضبط الشريط الحدودي شمال تشاد، بل لأنه يُوظف هذا التموقع الإقليمي كأداة لتعزيز سلطته الداخلية وتحييد خصومه السياسيين والعسكريين في الجنوب والوسط.

وقد وجد ديبي في التحالف مع حفتر و مليشيا الدعم السريع فرصة لتقوية موقعه عبر دعم خارجي مباشر، خاصة من الإمارات العربية المتحدة، التي لم تكتفِ بالاستثمار في البنية التحتية، بل قدّمت قرضًا ضخمًا لتشاد يُقدّر بـ1.5 مليار دولار لدعم ميزانية الدولة، وهو رقم يقترب من كامل الموازنة السنوية لتشاد، ويُعدّ الأكبر من نوعه في علاقات أبوظبي مع دولة إفريقية غير نفطية.

هذا التمويل لم يكن ماليًا فقط، بل رُبط ميدانيًا بتزويد نجامينا بمركبات عسكرية مدرعة ودعم لوجستي واستخباراتي، ما منح ديبي تفوقًا نوعيًا في إدارة التوازنات الداخلية، وساعده على تأمين حدوده وتعزيز نفوذه في محيط إقليمي هش. كما دعمت الإمارات مشاريع إضافية في تشاد من خلال صندوق أبو ظبي للتنمية (بقيمة 50 مليون دولار)، واستثمارات في الطاقة المتجددة عبر شركة “Amea Power” .

ومن جهة ليبيا، رصد المحلل العسكري “ريتش تيد” وجود طائرات شحن من طراز IL-76TD في مطار الكفرة، حيث وثّق تزايد عدد الرحلات الجوية القادمة من الإمارات، ووجود خمس طائرات شحن في مايو 2025 وحده. هذا التمركز الجوي دعّمه أيضًا تحقيق استقصائي مصوّر نشره مركز مرونة المعلومات، كشف عن معسكر لقوات الدعم السريع قرب مدينة الجوف الليبية، داخل أراضي حفتر، تتبعت منه مركبات وأسلحة وصلت شمال دارفور.


بهذه التوليفة، تتقاطع المصالح بين الإمارات، ديبي، حفتر، وحميدتي في نقطة مفصلية واحدة: تحويل المثلث الحدودي من منطقة نائية إلى منصة لوجستية – تجارية – أمنية تدعم اقتصاديات المليشيا، وتُضعف سيطرة الدولة

إن قراءة الديناميكيات الميدانية والدعم المالي واللوجستي تُظهر أن ما يجري في المثلث الحدودي ليس مجرد تقاطع مصالح وقتي، بل هو جزء من صياغة جديدة لتحالف إقليمي غير معلن, فالإمارات تقدّم التمويل والدعم العسكري، وديبي يوفّر الغطاء الحدودي والتسهيلات، وحفتر يفتح المعابر والأجواء، بينما يستثمر دقلو هذه المنظومة لتعزيز مشروعه السياسي والعسكري.

بهذه التوليفة المترابطة، يتقاطع الثلاثي (نجامينا – بنغازي – نيالا ) في نقطة مفصلية واحدة: تحويل المثلث من منطقة هامشية إلى منصة لوجستية–تجارية–أمنية تُغذي اقتصاد المليشيا وتُضعف سيطرة الدولة المركزية.

أما مصر، فرغم القلق التقليدي من تنامي نفوذ المليشيات على حدودها، إلا أن دقلو يحاول استثمار هذا القلق نفسه لإعادة تطبيع العلاقة معها، عبر تقديم نفسه كطرف يمكن التفاهم معه لضبط الحدود. وهو ما يفسر رسائل التهدئة الأخيرة في خطابه تجاه القاهرة، كمحاولة ذكية لـ”شرعنة نفوذه الحدودي” عبر التعاون لا التصعيد.

▪️ ملخصي كمراقب :
إن إعادة التموضع الخطابي لقائد مليشيا الدعم السريع تجاه مصر لا يمكن عزله عن التحولات الأعمق التي يشهدها الإقليم الحدودي بين السودان وليبيا ومصر.

فالدعوة إلى الحوار ليست بالضرورة تعبيرًا عن نوايا سلمية، بل قد تكون أداة لشرعنة واقع جديد يتم تشكيله على الأرض، واقع يُعيد تعريف وظيفة الحدود، وتوزيع الأدوار الإقليمية، وتقاسم النفوذ السياسي والاقتصادي خارج مؤسسات الدولة المركزية.

لقد أصبح مثلث العوينات أكثر من مجرد مساحة جغرافية متنازع عليها؛ إنه الواجهة الأمامية لمشروع سياسي–اقتصادي يسعى إلى تحويل القوة العسكرية للمليشيا إلى سلطة أمر واقع قادرة على الحكم، الجباية، والتفاوض باسم سكان الإقليم. وفي ظل الصمت المصري، والانخراط الإماراتي–الليبي–التشادي، تتحوّل المنطقة إلى مسرح لصياغة نموذج جديد من “الدولة الجزئية” التي لا تعلن الانفصال، لكنها تمارسه.

ما أريد أن أقوله، بصفتي مراقبًا لهذا المسار، هو أن هذه الخطوة ليست عفوية ولا ظرفية، بل تُعد جزءًا من مشروع متكامل سبق أن حذّرتُ منه في مقالات وتحليلات سابقة. فالسيطرة على المثلث، وتوظيفها كمنصة تجارية وأمنية، ليست إلا حلقة من حلقات مشروع الانفصال الإداري بحكم الواقع.

وفي هذا السياق، يجب أن نُدرك أن مشروع “الاستقلال الاقتصادي” ليس مجرد تكتيك ظرفي، بل فلسفة متكاملة يجري التحشيد لها محليًا داخل المجتمعات قائمة علي مشروع الانفصال الإداري الذي قمت بالتنظير له، ويتم تقديمها كحل بديل للأوضاع الاقتصادية المتردية.

فخطة المليشيا لا تتوقف عند إقامة حكومة موازية، بل تمتد إلى تصورات عن عملة جديدة ونظام مصرفي خاص، ما يعني أن السيطرة على المناطق التجارية الحدودية ليست مجرد رغبة في الجباية، بل ركيزة أساسية لهذا المشروع الانفصالي المتدرج.

وجبل عوينات – رغم أهميته – لن يكون النقطة الوحيدة؛ إذ يُتوقّع أن تظهر عدة نقاط تجارية جديدة في الشريط الحدودي الغربي والجنوبي ، تُستخدم لتوسيع شبكة الأسواق والجبايات، وتمكين الحكومة الموازية من الاستقلال المالي، وتغذية مشروعها بالشرعية المجتمعية.


وعليه، فإن الحكومة السودانية مطالَبة اليوم بأن تتعامل مع هذا التحوّل بجدية كاملة، لا باعتباره حدثًا ميدانيًا معزولًا، بل تهديدًا وجوديًا لوحدة الدولة وسيادتها. إن تجاهل هذه التحولات أو تأخير الرد عليها لن يؤدي إلا إلى ترسيخ واقع جديد، قد يصعب التراجع عنه لاحقًا.

أكتب تعليقـكـ هنــا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.