قراءة أولية في تحديات إصلاح الخدمة المدنية
“الإصلاح الحقيقي يبدأ حيث تنتهي الحلول المؤقته”: قراءة أولية في تحديات إصلاح الخدمة المدنية

بروفيسور بدر الدين عبد الرحيم ابراهيم
على الرغم من أنني لست متخصصًا في العلوم المرتبطة بالخدمة المدنية، مثل الإدارة العامة، أو السياسات العامة، أو إدارة الموارد البشرية الحكومية، أو الاقتصاد الإداري، أو الحوكمة الحكومية، إلا أن خبرتي الطويلة التي امتدت لما يقارب نصف قرن في متابعة أداء الجهاز التنفيذي والخدمة المدنية في السودان، ومراقبة تطوراتها في سياقات سياسية واقتصادية معقدة، مكنتني من رصد أوجه القصور المزمنة وفهم التحديات البنيوية التي تواجه هذا القطاع الحيوي.
خلال هذه الفترة، تبين لي أن الجهاز التنفيذي يعاني من “أوجه قصور مزمنة وعميقة” أثرت سلبًا على قدرته على القيام بدوره التنموي والإداري المنشود، سواء على مستوى التخطيط الاستراتيجي أو تنفيذ السياسات العامة أو تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين.
تجلى هذه القصور في مظاهر متعددة، أبرزها عدم استقرار الهياكل الإدارية للوزارات، وما صاحبه من دمج وفك متكرر للوزارات وفق الاعتبارات السياسية أكثر من الضرورات الإدارية، مما أدى إلى ظهور وزارات جديدة بمسميات مختلفة، أو تقسيم الوزارات القائمة ودمجها مرة أخرى دون رؤية مؤسسية واضحة، وهو ما أضعف الاستمرارية في الأداء وأربك عملية اتخاذ القرار والتنفيذ.
كما ساهم تكرار التبديل في المناصب القيادية، وضعف التنسيق بين المؤسسات الحكومية، وغياب نظم فعالة للمساءلة والرقابة، إلى جانب تأثر الكفاءات المهنية بالتعيينات السياسية، في تراجع فعالية الجهاز التنفيذي.
كل هذه العوامل أضعفت قدرة الدولة على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وخلقت بيئة إدارية هشة تفتقر إلى الاستقرار والثقة.
ومن خلال هذا الرصد، يمكن القول إن أزمة الخدمة المدنية في السودان ليست ظرفية أو مؤقتة، بل تعكس خللاً بنيويا متجذرا يحتاج إلى إصلاحات شاملة وجذرية تتجاوز الحلول الشكلية أو الجزئية أو المؤقته.
وبصفتي مؤمنًا بأهمية التخصص، أرى أن ما أقدمه في هذا المقال يمثل رؤية ملاحظ اكتسب خبرة في العمل الحكومي، وأتطلع إلى أن يثري أهل التخصص هذا النقاش بآرائهم العلمية وتحليلاتهم الموضوعية.
في البداية، من المهم توضيح العلاقة بين الدستور وبقية القوانين التي تنظم الحياة العامة.
فالدستور هو الوثيقة الأعلى في أي دولة، لأنه يحدد شكل الحكم، والعلاقة بين السلطات، وحقوق المواطنين وواجباتهم، وتستمد منه كل القوانين الأخرى مشروعيتها.
أما ما يعرف بـ”النظام الأساسي للدولة”، فهو يؤدي الدور نفسه في بعض الدول، خاصة الملكية منها، لكنه غالبًا يصدر بمرسوم ملكي أو أمر سلطاني دون أن يسمى دستورًا لأسباب تقليدية أو سياسية.
يمثل الدستور الإطار الذي تنطلق منه كل القوانين واللوائح، بما في ذلك تلك التي تنظم الخدمة المدنية.
فهو يضع المبادئ العامة لإدارة الدولة، مثل سيادة القانون، والمساواة، والعدالة، والشفافية، ويؤكد على ضرورة وجود إدارة عامة تقوم على الكفاءة والمساءلة وتكافؤ الفرص في الوظيفة العامة.
أما الخدمة المدنية، فهي التي تحول هذه المبادئ إلى واقع عملي من خلال تنفيذ سياسات الدولة وتقديم الخدمات العامة للمواطنين.
فهي الذراع التنفيذية للنظام الدستوري، التي تعمل على تطبيق ما ورد فيه من قيم ومبادئ في مجالات التعليم والصحة والزراعة وغيرها.
بهذا المعنى، فإن كفاءة الخدمة المدنية تعكس مدى التزام الدولة بدستورها، والعكس صحيح. العلاقة بين الدستور والخدمة المدنية هي علاقة تكامل، حيث يحدد النظام الأساسي الإطار القانوني والقيمي الذي تعمل الخدمة المدنية ضمنه، بينما تعكس الخدمة المدنية فعالية هذا النظام من خلال أدائها وكفاءتها.
ينظم النظام الأساسي التعيين والترقية والنقل والعقوبات والتقاعد، ويحدد الحقوق والواجبات والمسؤوليات، ليكون بمثابة “الدستور المهني” الذي تُبنى عليه السياسات واللوائح التنفيذية.
باختصار، النظام الأساسي يضع المبادئ، والخدمة المدنية تطبقها؛ فإذا اختل الأول ضعفت الثانية، وإذا أُصلح الأول تعافى الجهاز الإداري للدولة، مما يعزز التنمية والاستقرار.
في السودان، تأثرت الخدمة المدنية بشكل كبير بضعف الارتباط بين الدستور والنظام القانوني المنظم لها، نتيجة للتغييرات السياسية المتكررة وتبدّل الأنظمة، مما أدى إلى غياب الاستقرار الإداري وتراجع دورها كمؤسسة تخدم المصلحة العامة.
كما أن قدم النظام الأساسي وعدم تحديثه بما يتوافق مع مبادئ الدستور المتغير أضعف الأداء العام للدولة، حيث ظلت اللوائح القديمة غير ملائمة لاحتياجات الدولة الحديثة، مما أسفر عن تباين في التطبيق وضعف في آليات المساءلة.
ولضمان بناء جهاز إداري كفء وفعال قادر على خدمة الدولة والمجتمع، يتطلب إصلاح الخدمة المدنية مراجعة شاملة للدستور أو إنشاء دستور دائم متكامل يواكب التحولات المعاصرة ويعزز مبادئ الحوكمة والاحتراف والاستقلالية.
إلى جانب ذلك، أدت كثرة التعيينات السياسية وتدوير المناصب العليا إلى تراجع الاحترافية في القيادة الإدارية، حيث أصبح شغل المناصب يعتمد على الولاء السياسي أكثر من الكفاءة، مما أضعف روح الخدمة العامة وأحجم المؤسسات عن وضع خطط طويلة الأمد.
كما أن قصر مدة شغل المناصب القيادية جعل الوزراء والوكلاء يركزون على الأنشطة اليومية الآنية دون تأسيس استراتيجيات طويلة الأجل أو تراكم خبرات مؤسسية مستدامة.
كما تعاني الخدمة المدنية أيضًا من غياب واضح لمصفوفات الصلاحيات والمسؤوليات، مما أدى إلى تداخل الأدوار بين المستويات الإدارية الاتحادية والولائية، وحدوث ازدواجية في اتخاذ القرار وصراعات داخلية أحيانًا.
هذا الغموض في توزيع السلطات، إلى جانب ضعف نظم المساءلة والرقابة الإدارية، ساهم في الفساد الإداري والمالي، خاصة في ظل غياب الشفافية ونظم تقييم الأداء الفعالة.
ويضاف إلى ذلك الترهل الوزاري الناتج عن تضخم الهياكل الإدارية وتعدد المناصب بلا جدوى وظيفية حقيقية، مما أدى لاستنزاف الموارد العامة دون أي مردود ملموس على الأداء أو الخدمات.
يمثل الترهل الإداري أحد أكبر تحديات الخدمة المدنية في السودان، إذ تتسم المؤسسات الحكومية بتضخم هائل في أعداد الموظفين دون تناسب مع المهام الفعلية، ما يقلل الكفاءة ويعيق الابتكار والتطوير .
ومن ناحية القدرات البشرية، أدى ضعف التدريب والتأهيل المهني الجيد إلى تراجع كفاءة الكوادر العاملة.
إذ غالبًا ما تنفذ برامج التدريب بشكل شكلي، دون تحليل احتياجات حقيقي، وبعيدًا عن مواكبة التحولات التكنولوجية والإدارية الحديثة.
هذا النقص في تنمية القدرات أفرز جهازًا إداريًا مترهلاً وغير قادر على التجديد أو الابتكار، أعاق الأداء العام وحد من فعالية الدولة في تحقيق التنمية وبناء مؤسسات قوية قائمة على الكفاءة والشفافية والمساءلة .
كما أن ضعف الموارد المالية الحكومية شكل عقبة رئيسية أمام إنشاء نظام خدمة مدنية فعال، إذ يحد من قدرة الحكومة على جذب والاحتفاظ بالكفاءات المؤهلة بسبب محدودية الرواتب والمزايا.
هذا الأمر أثر على الاستقرار الوظيفي و أدى إلى ضعف الكفاءة وجودة الخدمات العامة وتضاؤل قدرة المؤسسات الحكومية على تحقيق أهدافها بفعالية.
تعمقت هذه الأزمات بفعل العوامل السياسية والاقتصادية التي شهدها السودان خلال العقود الماضية، بما في ذلك تقلب الأنظمة، والعقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، والصراعات الداخلية، مما جعل الخدمة المدنية ضحية مباشرة لعدم الاستقرار السياسي وأداة للصراع أكثر منها محركًا للتنمية.
في المحصلة، يمكن القول إن الخدمة المدنية السودانية تواجه أزمة بنيوية حقيقية تتطلب معالجة شاملة وجذرية، لا تقتصر على إصلاحات شكلية أو إدارية، بل تمتد إلى إعادة بناء المنظومة على أسس جديدة تشمل الكفاءة، والحوكمة، والمساءلة، لضمان استدامة الأداء العام وتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع.
باختصار، تواجه الخدمة المدنية في السودان تحديات كبيرة نتيجة عدم مواكبة الدستور للتحولات السياسية والإدارية، حيث أصبحت اللوائح القديمة غير ملائمة لاحتياجات الدولة الحديثة، مما أدى إلى تباين في التطبيق وضعف المساءلة.
وكما يقال: “من الأصل الصلب تنبت أعظم الأشجار”، و”الإصلاح الحقيقي يبدأ حيث تنتهي الحلول المؤقتة”، فإن أول ما يتطلبه إصلاح الخدمة المدنية في الدول النامية، وخاصة في السودان، هو ربطها بالدستور بما يتوافق مع التطورات الراهنة ويعزز مبادئ الحوكمة، والاحترافية، والاستقلالية، وسيادة القانون، وفقًا لتوصيات الخبراء في المجال.
كما يستلزم تحديث القوانين واللوائح المنظمة للخدمة المدنية لتتماشى مع التحولات السياسية والإدارية الحديثة، بما يضمن بناء جهاز إداري كفء وفعال يخدم المصلحة العامة.
ويجب أن يكون هذا الإصلاح شاملاً وجذريًا، يبدأ من الاعتراف بأن الخلل القائم في الخدمة المدنية ليس مؤقتًا أو سطحيًا، بل هو خلل بنيوي عميق الجذور.
- قراءة أولية في تحديات إصلاح الخدمة المدنية
- الجالية السودانية تكرم وتودع معلمي جامعة أم القرى
- تدشين حملة المطالبة بإطلاق سراح صفوت الجيلي عبر (خط أحمر)
- مفترق الطرق..!!
- إعفاء محافظ بنك السودان المركزي .. وتعيين آمنة ميرغني
يشمل مسار الإصلاح في المقام الأول إعادة هيكلة الجهاز الإداري على أسس الكفاءة، مع تبسيط الهياكل وإزالة الترهل الوظيفي، وتحديد الوظائف الأساسية بوضوح. كما ينبغي الفصل بين السلطات الوزارية والتنفيذية والفنية، وتحديد الصلاحيات والتفويض الإداري لكل وزارة ومؤسسة وإدارة عامة بدقة لتفادي التداخل والازدواجية.
ويتطلب الإصلاح أيضًا ترسيخ مبدأ الجدارة والاستحقاق في التعيين والترقيات، ووضع مصفوفات واضحة للصلاحيات المالية والإدارية ونظم الحوكمة، إلى جانب تفعيل نظم المساءلة والرقابة الإدارية والمالية لضمان الشفافية والانضباط ومكافحة الفساد.
كما يُعد اعتماد معايير شفافة للجدارة في الاختيار والترقي سبيلاً لتعزيز الثقة في الخدمة العامة. ومن الضروري كذلك تحديث برامج التدريب والتأهيل وفق احتياجات العمل الفعلية وبما يواكب التحول الرقمي والتطور التكنولوجي في الإدارة العامة، إلى جانب ربط الأجور بالأداء لتحفيز الكفاءة والإنتاجية.
وينبغي لكل مؤسسة حكومية أن تضع استراتيجية عمل طويلة الأمد تضمن استمرارية الأداء حتى في حال تغيير القيادات، بما يعزز الاستقرار الوظيفي وتراكم الخبرات المؤسسية.
وأخيرًا، يعد إنشاء مجلس وطني مستقل للخدمة المدنية خطوة أساسية للإشراف على سياسات التوظيف والإصلاح الإداري، وضمان تطبيق أفضل الممارسات العالمية في إدارة الموارد البشرية الحكومية، مع تقوية أجهزة الرقابة المركزية وديوان شؤون الخدمة وديوان المراجعة القومي لضمان الشفافية والمساءلة على جميع المستويات.