التقرير الفائز بجائزة محجوب محمد صالح: البرهان وحميدتي اختارا الإنقلاب على الجيل الخطأ

▪️البُرهان وحِميدتِي اختارا الإنقلاب على الجيل الخطأ
▪️تقرير – مصطفى سعيد

تعوَّدت سمَّاعات أجهزة الراديو في السودان بين كل حقبةٍ وأخرى على بث المارشات العسكرية للانقلابات؛ وأصبحت هذه المارشات مثل مؤثر صوتي في فيلم اختطاف السلطة الذي شاهده الشعب السوداني مراراً وتكراراً.

صمتت أجهزة البث في ذلك اليوم وكأنها لا تُريد الإفصاح عن حقيقة الانقلاب المتنكِّر تحت اسم (تصحيح المسار).

لم يخرج قائد الانقلاب عبدالفتاح البرهان إلا في الظهيرة ليتلو بيان انقلاب ٢٥ أكتوبر، وقبل أن يذيع بيانه ويُكمل نشر قواته في الطرق والجسور الرئيسية، كانت أفواج المتظاهرين الآتية من أنحاء العاصمة المختلفة عبرت إلى قلبِ الخرطوم وحاصرت قيادة الجيش في مسعى لاقتحامها بالرغم من انقطاع خدمة الاتصالات والإنترنت منذ الفجر.

يتربَّع السودان على عرش الدول التي شهدت انقلابات عسكرية، فمنذ أن نال استقلاله في عام ١٩٥٦م بلغت عدد السنوات التي حكمت فيها المؤسسة العسكرية (٥٢) سنة تخللتها فترات ديمقراطية مُجهضة ومليئة بالاضطرابات تعقبها ثورات غير مكتملة، وهكذا دواليك، مما جعل قيام الدولة المدنية الديمقراطية حلماً عزيز المنال.

في السابق كان استيلاء الجيش على السلطة يجد مباركة من النخب السياسية أو يغيب صوتها بفعل الاعتقالات، أما الغالبية العظمى من الشعب الذي أنهكه العَوز وضنك العيش فإنه يَتوسَّم خيراً في تحرُّك الجيش على أمل أن يتغير واقع الحال إلى الأفضل.

ولكن سُرعان ما تموت هذه الآمال العِراض دهساً تحت بوت المؤسسة العسكرية.

منذ اللحظة الأولى لانقلاب ٢٥ أكتوبر الأخير على السلطة الانتقالية، ولأكثر من ثمانية أشهر، سقط أكثر من (١٠٠) شهيد، ونحو (٥) آلاف مصاب، كما اعتُقل المئات في التظاهرات السلمية المطالبة باستعادة السلطة المدنية واستكمال مسار الانتقال الديمقراطي.

متوسط أعمار المشاركة

استناداً على تقارير الأمم المتحدة فإن نسبة المواطنين دون سن الخامسة والعشرين تُمثل (61.5٪) من جملة السكان، لذا فإن نسبة متوسط العمر في السودان هو (19) عاماً. وفقاً لتحليلنا لمائتي عينة عشوائية من المشاركين في الاحتجاجات المناهضة لانقلاب 25 أكتوبر، فإن المشاركين من دون سن (20) قد بلغوا (63) عينة أي بنسبة تقدر بـ (31.5٪) وهم أطفال ومراهقون،

بينما (87) عينة فوق سن (20) بنسبة (43.5٪)، أما من هم فوق سن (30) فقد بلغوا (34) عينة بنسبة (17٪)، و(25) من أصحاب الأعمار الأكبر من (40) سنة فما فوق وتبلغ نسبتهم (12.5٪)، أي إن أغلبية المشاركين في الاحتجاجات المناهضة للانقلاب هم من فئة الشباب فوق (20) سنة.

تغيير في العقلية

يرى المختص في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، مدني عباس مدني، أن هنالك تغييراً طرأ على بنية العقلية السودانية بتحولها من مربع الاستسلام وتقبُّل الانقلابات العسكرية إلى مربع المقاومة.

يقول: “الأمر الثابت في كل الانقلابات التي أجهضت مسار الانتقال الديمقراطي في السودان عدم حدوث مقاومة من الشارع السوداني، والمقاومة التي حدثت لانقلاب 25 أكتوبر توضح مدى التغيير الكبير الذي حدث في بنية العقل السياسي السوداني، ولا يمكننا تجاهل مساهمة الأجيال الشبابية في العمل السياسي”.

ويرى أن هذا التغيير بدأ منذ نشوء الحركات الشبابية السياسية مثل حركة (قرفنا) و(التغيير الآن)، بجانب المبادرات الاجتماعية الخدمية مثل مبادرة شارع الحوادث، وأن كل هذه الأنشطة أسست لعمل اجتماعي مشترك بين الشباب.

تجنُّب تكرار الفشل

الأجيال الصغيرة التي تقود احتجاجات اليوم وُلدت في حقبة نظام عسكري ديكتاتوري، إلا أنها أشد حرصاً على وضع حد لهيمنة المؤسسة العسكرية على السلطة.

إذاً لماذا تُطالب هذه الأجيال بحكم مدني ديمقراطي، بالرغم من أنها لم تجد أساساً ديمقراطياً تستند عليه؟! يجيب مدني عباس عن هذا التساؤل بقوله: “هنالك رغبة قوية لدى الأجيال الشابة في عدم تكرار الفشل، فقد أثبتت الثلاثون عاماً من حكم الإنقاذ أن السكوت عن الشمولية قد يكون أعلى تكلفةً من مقاومتها.

انتفاضة سبتمبر 2013 تُعد محطة مهمة في التاريخ السياسي لدى الأجيال الجديدة، وذلك باعتبار أنها كانت إحدى شرارات الثورة على النظام. يعتقد مدني عباس أن هذا الجيل يؤسس لنهاية الشموليات في السودان، لأنه يتعامل مع أصول المشاكل لا ظواهرها.

مبادرة ومصداقية وشفافية

من المميزات التي تتوفر لدى هذا الجيل استفادته من التطور التقني الكبير، وانفتاحه نحو العالم، بالرغم من رداءة التعليم إلا أن فرصة الاستفادة من المعارف التي أتاحتها ثورة المعلومات زادت بشكل كبير، بالإضافة إلى قدرته على التنظيم الجماعي العابر للتنظيمات السياسية، وهو أمر مختلف عن سوابق التاريخ السياسي والاجتماعي السوداني. يصف مدني عباس أبناء هذا الجيل بأنهم يتميزون بالقدرة على المبادرة، والمصداقية العالية والشفافية.

جيل يسعى للحياة بصدر عارٍ، وأضلاع بارزة، وملامح غاضبة، يقف الشاب (م.ح ـ 23 سنة)، في أحد المواكب برفقة أقرانه، تتعالى أصواتهم بالهتافات المناهضة لانقلاب 25 أكتوبر.

يحمل (م.ح) بين يديه راية رُسم عليها وجه الشهيد عبدالعظيم أبوبكر الذي استشهد في بدايات ثورة ديسمبر في أم درمان.

يقول (م.ح) إن وقفة الشهيد عبدالعظيم أبوبكر أمام الموت وتلويحه بعلامة النصر في وجه قاتله ظلت دائماً تُحفِّزه هو ورفاقه على مواصلة النضال،

ويستطرد قائلاً: “وصلنا إلى نقطة اللاعودة، فإما أن نستمر لنحقق مطالبنا، أو نتخاذل وتذهب كل التضحيات هباء”. جسَدُ (م) صار مليئاً بالندوب والعلامات التي خلفتها الإصابات المتواصلة بعبوات الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي.

آخر إصابة تعرّض لها في ظهره كانت بسلاح الخرطوش الذي يُطلق عليه اسم (السُكسُك)، وهو سلاح لصيد الحيوانات البريَّة؛ استخدمته السلطات في السودان مؤخراً في مواجهة المحتجين السلميين.

هنالك من يصف ثبات الشباب ومقاومتهم لآلة القمع وصمودهم في وجه التنكيل، بأنه أفعال انتحارية، بينما يعتقد (م.ح) غير ذلك ويقول: “في الأساس هذه الثورة سلمية، ومواجهة القوات النظامية ليست غايةً في حد ذاتها، وإنما وسيلة نستطيع عبرها تثبيت المواكب وعدم الرضوخ لقوات الانقلاب التي تستخدم العنف من أجل الردع والتخويف”.

في هذا الصدد ينفي أيضاً المختص في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، مدني عباس، صفة “الانتحارية” عن الشباب من جيل الثورة، قائلاً: “هذا الجيل هو أكثر جيل يسعى للحياة، حيث يرى أبناؤه أن هنالك فاتورة ينبغي دفعها عاجلاً أو آجلاً، لذلك من الأفضل أن تُدفع مرةً واحدة بدلاً من التقسيط”.

لن نؤجِّل المعركة

“قدرنا أننا الجيل الذي سيدفع تكلفة آخر الانقلابات العسكرية ولن نؤجِّل هذه المعركة”. دائماً ما تفتتح لجان المقاومة بياناتها الثورية بهذه المقولة التي أول من استخدمتها لجان بحري، ثم أصبحت من مأثورات الثورة. في تقدير الصحفي الشاب، عمار حسن، أن انقلاب (البرهان – حميدتي)، سيكون آخر الانقلابات العسكرية، وذلك لذروة الوعي التي وصلتها جماهير الشعب السوداني وإدراكها لمضار الشموليات والأنظمة الديكتاتورية.

يقول عمار: “الفروقات بين ديسمبر وأكتوبر وأبريل واضحة، فعندما سقطت تلك الأنظمة العسكرية كان هنالك من يهتف متأسياً: ضيعناك وضعنا وراك، بينما في ديسمبر صدحت الهتافات عالية: الجوع ولا الكيزان، الشعب أقوى والردة مستحيلة، العسكر للثكنات والجنجويد ينحل”.

من أين اكتسبوا الوعي؟

كان وما يزال ثوار ثورة ديسمبر يرددون أن ثورتهم ثورة وعي في المقام الأول، يُعرِّف الناشط السياسي، محمود جادالله، الوعي المقصود بأنه الدراية التامة بالمطالب الشعبية التي قامت من أجلها الثورة، هذا الوعي يرتبط بمعرفة المواطن لحقوقه وواجباته التي يتعين عليه القيام بها، ومناهضته للظلم ومناداته بالتحرر من قبضة الأنظمة الباطشة.

عبدالقدوس أحمد الطيب (25 عاماً) يقول إنه وأبناء جيله لم يصلوا إلى مرحلة الوعي التي هم عليها اليوم عن طريق الصدفة، وإنما جاء ذلك بتراكم التجارب.

هذا الوعي -على حد قوله ـ أتى ممرحلاً، وكانت أولى ثمراته القرار الجماعي بإسقاط نظام عمر البشير عبر ثورة شعبية سلمية، مروراً باعتصام القيادة العامة الذي يعتبره عبدالقدوس محطة مهمة ساهمت في تشكيل وعي هذا الجيل، حيث جمعت جغرافيا الاعتصام جميع الفئات العمرية من مختلف التنظيمات السياسية وحركات الكفاح المسلح ولجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني، فكانت تلك البيئة خصبة لتلاقح الأفكار والاستماع وتطوير الوعي.

يرى عبدالقدوس أن هنالك عاملاً آخر ساهم في تشكيل وعي الجيل الحالي عن مقاومة الانقلابات العسكرية، يتمثل في استشعار المسؤولية التاريخية والإصرار على طي صفحة هيمنة الحكومات العسكرية لصالح بناء الدولة المدنية الديمقراطية.

يقول: “المسؤولية التاريخية نبعت من التجارب التاريخية السابقة التي تدور في فلك الثورات التي تعقبها ديمقراطيات متعثرة ثم انقلابات”.

تعدد مصادر الوعي

خلال الثورة، ساهم الوعي الذي اكتسبته الأجيال الشابة في تنظيمها لحراكها، فأنتج ذلك مزيداً من التخصصية من أجل تجويد العمل.

يقول عبدالقدوس إنهم ومن خلال انخراطهم في لجان المقاومة يقسمون المهام فيما بينهم، فهنالك من تخصص في التخطيط الاستراتيجي، وهناك من عكف على دراسة آليات المقاومة السلمية، وآخرون مَثَّلوا دور المنظرين الثوريين، كما أن كوادر القوى السياسية الشابة في الجامعات ساهمت أيضاً في بث الوعي والتبصير، لذلك

يصف عبدالقدوس هذا الوعي بأنه متعدد المصادر. احتجاجات رغم الإجراءات الآن يُواجه المتظاهرون في شوارع العاصمة الخرطوم وعدة مدن سودانية أخرى السلطات الأمنية بالآلاف، سواء من خلال مواكب لا مركزية أو مركزية، ونجحت المقاومة الشعبية في العديد من المرات في كسر الأطواق الأمنية والوصول لمحيط القصر الجمهوري،

بالرغم من نشر السلطات لحوالي (6) آلاف عنصر أمني و(400) ضابط في المتوسط، لتستمر المواجهات بشكل شبه أسبوعي لنحو (6) ساعات في محطة النقل العام (شروني) وسط الخرطوم، بالرغم من تزايد أدوات القمع من الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع وبنادق الخرطوش وعمليات الدهس عبر سيارات القوات النظامية.

كذلك لم تُجْدِ نفعاً محاولات السلطات الانقلابية لخنق الاحتجاجات عبر قطع خدمة الإنترنت في أيام الاحتجاجات المعلنة، بجانب إغلاق الجسور التي تربط مدن العاصمة الثلاثة، فالمتظاهرون ظلوا يتحايلون على كل هذه الإجراءات ويُطورون آلياتهم في مناهضة الانقلاب.

عبث مع الجيل الخطأ

وعلى الرغم من تطور حملات القمع ضد المتظاهرين إلا أنها لم تكسر روح المقاومة، ولم تُخرس أصوات الفتيات والفتيان المؤيدة للديمقراطية. بل يمكن القول إن القمع الوحشي قد زاد من حدة معارضة الحكم العسكري، مما يُدلل على أن ديسمبر ليست ثورة غضب يمكن أن تنتهي أو تنزوي بالإحباط أو بتنازلات شكلية، بل هي ثورة وعي تزداد قوةً ورسوخاً مع مرور الأيام، لتجعل من نجاح عملية التحول الديمقراطي مسألةً حتمية.

إنهم يدركون أكثر من أي وقت مضى أن الثورة ليست مجرد حدث عابر يمكن أن ينجح أو يفشل، لكنها عملية طويلة تأخذ مسارات غير منتظمة صعوداً وهبوطاً.

معارضة الانقلاب العسكري في السودان مثيرة للإعجاب من قِبل جيل الشارع، شاب ورشيق، ومثقف وذكي ورقمي، حيث تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورًا هائلاً، يتم تحميل هجمات الشرطة على الفور على الشبكة العنكبوتية.

كما أن اتساع نطاق المقاومة هو أحد التفسيرات المحتملة لسبب تردد العسكريين في المضي قدماً بانقلابهم في مواجهة شعارات واضحة ترفض الحكم العسكري.

يبدو أن البرهان وحميدتي قد عبثا مع الجيل الخطأ، وهو ما يشير إلى أن عهد الوصول للسلطة في الخرطوم عبر الدبابات قد ولى وربما إلى الأبد.

أبعاد ابعاد قابل للكسر صحف أخبار عاجلة عاجلجائزة محجوب محمد صالحمصطفى سعيد
  • اخبار
  • مقالات رأي
Comments (0)
Add Comment