احمد بن عمر يكتب: بين وحدة السودان وكسر النزاع

احمد بن عمر يكتب: بين وحدة السودان وكسر النزاع
قراءة لبيان الحزب الشيوعي حول الرباعية الدولية
في خضم الحرب السودانية الممتدة منذ أبريل 2023، اندلعت مبادرة «الرباعية الدولية» (الولايات المتحدة، السعودية، الإمارات، مصر) في 11 سبتمبر 2025 بهدف وقف النزاع وإطلاق عملية انتقالية مدنية.
جاء ذلك على وقع واقع سياسي وعسكري بالغ التعقيد، حيث تشكلت حكومتان متوازيتان رغم تحفظاتي علي (الخطوة الحديثة العشوائية)، لكن ربما يوحي ذلك بإمكانية استمرار الانفصال اداري لأجزاء من البلاد واستمرار القتال في جبهات متعددة .
استجابت الرباعية لمآلات الحرب السودانية بوضع مبادرة تشمل ثوابت وطنية من قبيل “الحفاظ على وحدة الدولة وسيادتها”، ورفض “أي حل عسكري للأزمة”، والاتفاق على هدنة إنسانية لثلاثة أشهر لتأمين وصول الإغاثة، ثم فترة انتقالية مدنية قصيرة تنتهي بحكومة مدنية محصنة وثيقة الصلة بالمواطنين, بل دعت المبادرة رفض أي تدخل خارجي يغذي الصراع, وقد علقت علي البيان سابقاً في مقال منفصل.
باختصار، فإن مبادرة الرباعية طرحت مسارًا سياسيًا لحل الأزمة راعى وحدة السودان وحقوق المدنيين وضرورة الدور الحَكْمِي للشعب، مع إلزام كل الأطراف بوقف الدعم المسلح وبأي شكل من أشكال التعاون العسكري
وقد أشارت وسائل الإعلام المحلية إلى أنّ المبادرة التقت بالحد الأدنى من مطالب بعض قوى الثورة المدنية (وقف الحرب وخارطة طريق انتقالية) في حين قوبلت بالرفض من جهات, متنوعة كرد فعل تخوفي من الآملات الخارجية التي تعيد مليشيا الدعم السريع الي المشهد .
هذا المقال استجابة لدعوة الرفيق الدكتور عثمان عبدالله Osman Abdalla لإحداث حراك سياسي حول الرؤي المطروحة حول تحديد الأفكار وتوسيع النقاش في مواقف القوي المدنية من واقع الحال للوصول الي نقاط مشتركة لقبول المبادرات مع تأكيدي علي دعمي لاي تجمع سياسي داخلي يبدا بحوار ثم توافق ثم تحديد برنامج وطني لتفسير الحالة السياسية الناتجة عن الحرب
▫️الموقف الشيوعي في سياق تاريخ الحزب
يرتكز بيان الحزب الشيوعي السوداني (الصادر أواخر سبتمبر 2025) على إطاره الأيديولوجي التقليدي المتسم بالخطاب الأممي والطبقي?
فالحزب، الذي تأسس أغسطس 1946، عرف تاريخيًا بقواه المؤيدة للتحرر الوطني وضد النفوذ الإمبريالي، ومفكريه البارزين للحزب يغلب عليهم التحليل المادي للتاريخ، لذا تكرّرت في البيان مصطلحات تحذر من (الإمبريالية) (الرأسمالية الطفيلية) وإشارات إلى أنّ السودان مُعَرَّض لنفوذ غربي يمس ثرواته وسيادته.
وفي مضمونه، أكد الحزب الشيوعي أهم المطالب الوطنية التي ظل يدافع عنها منذ ثورة ديسمبر: أن «لا يوجد حل عسكري» للأزمة، وأن وقف الدعم العسكري الخارجي أداة أساسية لإنهاء الحرب، وأن على الأطراف حماية المدنيين والبنى التحتية، وأن «سلامة السودان ووحدته وسيادته» يجب حفظها كما نادى بترك مستقبل الحكم «للشعب السوداني عبر عملية انتقالية شاملة وشفافة»،
وأضاف الحزب (بالنص) «دون تدخل أجنبي»، ووافق الحزب على ما ورد من إيجابيات في بيان الرباعية، مثل الدعوة لوحدة الوطن ومساعدة النازحين وإعادة الإعمار وإنهاء القتال. هذه المواقف (“رفض الحرب، حماية المدنيين، وحدة السودان، انتقال مدني ديمقراطي”) تلتقي في جوهرها مع مطالب قوى الثورة والشعب السوداني طوال العامين الماضيين، وهي مدعاة لثناءٍ مشترك.
فقد ظل حزبنا الوطني يطالب منذ البداية بوقف فوري لإطلاق النار وإعطاء المساعدات الطبية والغذائية طريقها للمتأثرين، بالإضافة إلى حماية وحدتنا الوطنية.
▫️نقاط الاتفاق الوطنية
النقاط الإيجابية المشتركة بين بيان الرباعية وبيان الحزب الشيوعي حملت نقاط جيدة باختصار هي:
- وحدة السودان وسيادته: شدّد الطرفان على الثوابت الوطنية في «حفظ سلامة السودان ووحدته وسيادته». وهذه نقطة اتفاق مهمة تبث الثقة في التحرك المشترك للحفاظ على التراب الوطني، بعيدًا عن أي تقسيم.
- رفض الحل العسكري: عبّر الشيوعي (ضمن مواقفه الإيجابية) بوضوح «لا حل عسكري الوضع الراهن يخلق معاناة تهدد السلام العالمي»، وهو ما يتناغم مع دعوة الرباعية لترك الخيار المسلّح واللجوء إلى التسوية السياسية.
- مساعدات عاجلة وحماية المدنيين: يتوافق البيانان على ضرورة وصول الإغاثة دون عوائق وحماية المدنيين. وذكر الحزب أن من مبادئ الرباعية «الضغط على جميع أطراف الصراع لحماية المدنيين»، وهي من المطالب الإنسانية التي طالبت بها الثورة والعملية الانتقالية، وتجد صدىً في كل مكونات المجتمع.
- بناء حكم مدني: سعت الرباعية إلى «انتقال سياسي سلمي» بمدة محدودة؛ وخلا البيان الشيوعي تعليقًا شاملًا على آلية التنفيذ، لكنه أشار إلى موافقته المبدئية على سلطة مدنية تنتخبها الشعب غير تابعة لأي قوات مسلحة. هذه الفكرة – رغم اختلاف تفاصيل تطبيقها –تبقى مشتركة في المبدأ مع قوى الثورة.
يمكن القول بأن هناك أرضية وطنية موحدة إننا نثمن هذه النقاط الواردة في البيان الشيوعي بوصفها التعبير الأدنى عن تطلعات شعبنا (وقف الحرب، وحدة الدولة، حكومة مدنية)، وهذه المواقف «الصحيحة من حيث المبدأ» كما لخصها الحزب نفسه، هي الأساس الذي يجب البناء عليه .
▫️إشكالات البيان الشيوعي وتحليل نقدي
مع التوافقات المذكورة، يبرز في بيان الحزب الشيوعي عدة ثغرات نقدية تستدعي الأسئلة وليس النقد الكامل مع احترامي التام لتاريخ الحزب النضالي الكبير, يمكن ان الخص نقاطي حول:
- تبسيط دور الرباعية: اختزل الحزب الرباعية في مآرب اقتصادية سيادية إمبريالية حصراً، بالقول إن المبادرة «مرتبطة أساساً بحماية مصالح واشنطن وحلفائها», وكثيرًا ما ركز في نقده على تشكيك نوايا الرباعية واتهامها بإشعال الحرب سابقًا؟ هذا التعميم وإن كان فيه من الحكمة الحذر من أجندات خارجية فإنّه يُهمّش التعقيد المتداخل في مصالح الأطراف الثلاثة, فالرباعية نفسها تضم دولًا إقليمية لها توجهات متغيرة أحيانًا، ولا يمكن تجاهل أن وقف الدعم (لا سيما الإماراتي) هو أمر أساسي بحد ذاته لإنهاء الحرب, فهل يمكن ان يكون رأي الحزب مشابه لرأي الحكومة في ان من حيث المبدأ ليس هناك إشكالات في رفض المبادرة ولكن التحفظ علي نقاط يمكن معالجتها مستقبلً.
- خطاب ثوري واقعي؟ تكرّرت في البيان شعارات ثورية تقليدية (حل مليشيا الدعم السريع، محاسبة قادة الحرب، إعادة بناء الجيش الوطني المهني، إنهاء تمكين النظام السابق)، وهي مطالب مشروعة أخلاقيًا أتفق معها, لكن الأخطر أن هذه المطالب وُضِعَت دون تخطيط عملي لكيفية تنفيذها ضمن تسوية؛ فالأولويات الدولية تتركز حاليًا على وقف القتال بشكل سريع، وتثبيت الأقلية المدنية في الحكم، وربما تشمل تكاملًا محدودًا لبعض الحركات المسلحة في أجهزة الدولة, فحصر الحل في إجراءات داخلية صارمة من دون إبراز الرؤية التفاوضية يجعل الخطاب «ردّ فعل» فقط ويغيب عنه مرونة المبادرات، كما أشار كاتب تحليل مستقل , بعبارة أخرى، إن الإصرار على محصلة ثورية «مُنقطة» قد يصطدم بالواقع الجديد ويتجاهل الدروس السابقة التي تعلمنا أنّ التسويات السياسية غالبًا لا تبدأ بمحاسبة فورية، بل تتطلب وفاقًا تدريجيًا.
- تجاهل الواقع الجديد: تميّز حديث الحزب بالشعارات العائدة إلى فجر الثورة (ديسمبر 2018) وكأنه يعيش عالمًا قبيل انقلاب 25 أكتوبر 2021 وحرب 15 أبريل 2023. لكنه لم يتطرق إلى نمط جديد من السلطة وانتشار حلفاء إقليميين للجانبيْن, فالوضع الآن يشهد انهياراً للبنى المؤسسية في المدن المهمة، ونزوحاً جماعياً للملايين عن ديارهم، وتوقف لنشاط الجماهير والطبقات التي تعتمد علي الحكومة وكذلك صغار الحرفين مع افقار تام للعمال, مع ووجودَ خطاب حكومة موزاية (هشة) لكن تحمل تبيان المصالح المدفوع من قوى داخلية وخارجية .
وفي هذا السياق ظهر تحالف «صمود» بقيادة آخر رئيس وزراء مدني (حمدوك) وله علاقات اقليمة أيضا مدعومة، إضافةً إلى تحالفات فاعلة أخرى مكونة للحكومة الموازية التي ذكرتها مثل «تأسيس» ذات الأسس القبلية والجهوية؛ وهي فاعلان لا يمكن تجاوزهما في أي تسوية قادمة, غيب بيان الشيوعي هذه المعطيات البنيوية ثم اكتفى بمناشدة القواعد الثورية وحصرها ضمن السودان فقط ، ما قد يعزل الحزب في سياق متغيّر.
فالمهم, المقدمة الأيديولوجية للحزب حملت مطالب «حصيلة ثورية» بامتياز، لكنها أغفلت أن الثورة الانقلابية والدبلوماسية الجديدة ليست نسخة طبق الأصل عن الثورة الأولى. لقد أصبح من الواضح أن «ثوار الخارج» (قادة ومناضلون نازحون أو في المهجر) لهم دور لا يقل أهمية في تشكيل أي جبهة مدنية عريضة، وأن إغفالهم يضيع فرصة دمج كل الطاقات المتاحة في هذه المرحلة .
▫️دروس الانتقالات السودانية السابقة
نبني نقدنا أيضاً على تجاربنا التاريخية: فقد فشلت الحلول السابقة عندما غاب التوافق الشامل على الثورة والتحول. فقد أنهت «اتفاقية أديس أبابا» (مارس 1972) الحرب المددودة لكنه سرعان ما انهار عندما انقلب نميري على بنودها (1983)، لفرض الشريعة وتدخلات في نظام الحكم الذاتي للإقليم وتجاهل فئات جنوبية, وبالمثل، أنهت اتفاقية «نيفاشا» (يناير 2005) حرب الجنوب الكبرى، ولكن حركات دارفور وشرق السودان رفضت الاندماج في المرحلة الانتقالية، باعتبار أن الثروة والسلطة قُسمت مسبقًا بين الشمال والجنوب, وفي الأثناء عاش السودان بعد 2019 هبوطًا صعبًا بين قبض الإخوان والجيش؛ فعلى الرغم من إعلان «انتقال مدني» بقيادة حمدوك، سرعان ما عادت الدولة العميقة إلى الواجهة (انقلاب أكتوبر 2021) مما مهّد للوصول إلى الحرب الحالية.
هذه الدروس في استصاحبي لصياغ الحديث ربما تؤكد أحياناً تكون مطالب التحول «الثورية» (محاكمة الفاسدين، توزيع الثروة، فض النظام السابق) ضرورية مستقبلًا، ولكنها تشترط عملية تفاوض وتحالفات داخلية وخارجية معقولة, إن اتهام القوى المدنية كلها بالانخراط في «مؤامرات الرباعية» وتجاهل التعقيدات الاقليمية قد يجعل أي خطاب ثوري جامد غير عملي, فالمعادلة الآن تحتاج من المكونات المدنية توسيع مجال التوافق ومراكمة النفوذ الشعبي لفرض أجندتها، لا التفرق على هامش الصراعات الإقليمية.
▫️نحو أفق مستقبلي: مسار القوى المدنية والتسوية
في ضوء ما سبق، يبقى السؤال: ما المطلوب من القوى المدنية الوطنية؟ الإجابة ليست في «بيان الرباعية» وحده، ولكن في قدرتها على تحويله إلى فرصة شعبية, ينبغي على كل تجمع مدني تقدمي أو وطني أن يتركز جهده على النقاط الأساسية التالية:
- دعم المبادئ الجوهرية: إعلان موقف صريح بتأييد البنود الأساسية لوقف الحرب وحماية وحدة السودان، وهذا لا يعني انصياعاً كاملاً لأي خطة خارجية، بل حجز الحقوق الوطنية بما يضمن عدم تأطير مستقبل البلد بتفاهمات تضعف سيادته.
- توحيد القوى المدنية: تشكيل مظلة وطنية عريضة تشمل كل الأحزاب الثورية، لجان المقاومة، القوى المهنية، والكوادر المدنية خارج البلاد, هذه الهيئة الموحدة ينبغي أن تكون صوت الشعب في أي عملية تفاوضية، تطرح أجندة قومية موحدة (مثلاً: رفض تقسيم السودان، انتقال مدني حقيقي، العدالة الاجتماعية), إن غياب مبادرة لتنسيق هذه القوى (موحدة و متفاهمة) يصب في مصلحة الإسلاميين ويشتت الحراك .
- خطة انتقال سودانية متكاملة: إقرار رؤية وطنية للتسوية تشتمل على جدول زمني محدد، وضمانات دستورية مؤقتة، وآليات محاسبة واعادة بناء المؤسسات الأمنية, يجب أن تتضمن هذه الخطة أيضاً فترة انتقالية قصيرة نحو سلطة مدنية منتخبة (استبعاد قادة النظام السابق). طرح مثل هذه الوثيقة كخارطة طريق سيُجبر الوسطاء الدوليين على التعاطي معها كنموذج وطني، بدلاً من ترك الأمور لقوى خارجية, فمن وجهة نظرى الحل يجب ان يكون داخلي قبل ان يكون خارجي.
- رقابة ومتابعة وطنية: تشكيل لجنة وطنية أو هيئة مستقلة تضم ممثلين عن القوى الحقيقية (أحزاب، نقابات، مجتمع مدني)، لمراقبة الالتزام بالهدنة والإشراف على ملامح وهذا يرفع سقف المساءلة المحلية ويقطع الطريق على أي محاولة لمشاركة قادة الحرب في الانتقال دون محاسبة.
- استخدام المبادرات الخارجية بنجاعة: الذكاء السياسي يكمن في تحويل الضغوط الدولية من تهديد إلى رافعة أي أن القوى المدنية مطالبّة باستثمار أي تدخل (مثل مبادرة الرباعية) لتعزيز مطالبها؛ فلا تكفي المعارضة من منطلق رفض التدخل الخارجي بلا استراتيجية، بل يجب الحرص على أن تعمل هذه المبادرات لصالح أجندة الثورة المشروعة مع التأكيد علي رفض الاملاءات وفرض الوصايا.
أؤكد, لا يغلق بيان الحزب الشيوعي الباب تمامًا أمام مسار وطني؛ فقد كرر تأكيد وحدة السودان ورفض الحرب والتمسك بالبرنامج الانتقالي، وهي مبادئ وطنية صحيحة, لكن طريقة طرحه قد تحتاج إلى ضبط الواقع المتغير, إذ إن إغفال دور الداخل والخارج معًا سيحدّ من تأثيره, المطلوب الآن أن تستثمر القوى المدنية هذه الدعوات التاريخية بمرونة سياسية واقعية بصورة توافقية اولاص حتي تم صياغة نقد او اتفاق قوى للرباعية او أي مبادرة حلول, فالأميركان والغرب بادروا
وإن كان لهم مصالح بطرح خارطة طريق تمثل فرصة لإنهاء الحرب, وعلى المعارضة المدنية أن تملك البديل السوداني المتكامل، وتضغط داخليًا (بوسع الجماهير واللجان الثورية والقوى المدنية)
وعلى المنابر الدولية لإلزام المانحين وضامني الرباعية بالتعامل مع البرنامج الوطني الديمقراطي الذي ندعوا ان يكون بتوافق اكبر القوى السياسية المختلفة منذ بداية الحرب وبدعوة الجيش نفسه والتأكيد علي الضمانات والمشاركة بفاعلية لتأسيس خطاب سياسي حقيقي يوقف الحرب وينهي مغامرات آل دقلو العشوائية.
▫️مؤشرات
كدراسة نقدية، نخلص إلى أنّ خطاب الحزب الشيوعي يحتاج إلى تطوير واقعي يُمكنُه من تقديم بديل مدني شامل يقتنص أي فرصة لخدمة أهداف الثورة، يظل الحذر من الأجندات الخارجية مشروعًا، لكن جوهر الصراع الآن يكمن في قدرة شعب السودان على فرض إرادته
الشعب السوداني، الذي صنع ثورة ديسمبر، ما زال قادرًا على فرض إرادته متى ما جرى توظيف المبادرات الخارجية لصالحه لا ضدّه»، وعلى القوى الوطنية الالتزام بهذه المبادئ، للوصول إلى مخرج ينهي الكارثة الراهنة ويؤسس لانتقال ديمقراطي مستدام.