تسعون يوماً من الفوضي الشاملة .. ثم ماذا بعد ؟!
تسعون يوما من الفوضى الشاملة .. ثم ماذا بعد؟

عروة الصادق
مقدمة: في كتابه “حالنا ومآلنا” والعديد من الكتب الأخرى ظل يعدد (الامام الصادق المهدي) ما ستكون عليه أوضاعنا السياسية وانفجاراتها المحتملة، ووضع خلاصة تجربته السياسية العلمية والعملية طوال فترات حكمة الديمقراطية وحكوماته المنتخبة وفترات معارضته للأنظمة السلطوية الدكتاتورية العسكرية، وظل مشددا على ألا سلام بلا عدالة، وان الديمقراطية عائدة وراجعة.
- وفي كتابه “نهاية السلطة: من غرف الاجتماعات إلى ساحات القتال ومن الكنائس إلى الدول ، لماذا لم تكن المسؤولية كما كانت في السابق”، عدد الكاتب مويسس نعيم (Moisés Naím) مخاطر إنزلاق الأمم، وحذر وأنذر من خطورة إنفجار المجتمعات.
- وفي كتابه “عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث”، ذكر الكاتب (نعومي كلاين) كافة أسباب تداعيات الدول، وحمل في طياته جميع أجراس الانذار ووضع عصارة جهده وخلاصة تجربته، مقروءة تلك الكتابات مع كتاب “أفضل ملائكة طبيعتنا: لماذا تراجع العنف” لكاتبه (ستيفن بينكر)، الذي وضع الأسس النفسية التي تولد العنف أو تئده في مهده.
- أما في كتاب “النظام السياسي والانحلال السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية” للكاتب (فرانسيس فوكوياما)، نجد تصورات حقيقية لما تم تنفيذه وما سيتم حال انسياق الأمم لمشاريع فوضوية (خلاقة).
● “انطلاقا مما تقدم، واستقراء لقرائن الأحوال ووقائع أيام الحرب في بومها التسعين، أحاول المقاربة بين الفوضى ومسبباتها، والحلول التي يمكن اجتراحها أو استنباطها، من قيم ما كته هؤلاء الحكماء والمفكرين، وهو أقل واجب يمكن نسهم به في ظل أعمدة الدخان التي غطت الحقيقة وغيبت الحقوق، وانتهكت الحرمات، وشردت أصحابها، فإلى مضابط المقالة التالية”:
● أولا: لم يكن 15 إبريل 2023م هو ميعاد الأزمة وتاريخها الحقيقي ولكن ما شهدناه في ذلك اليوم هو اندلاع موجات الفوضى والانفجارات السياسية والاجتماعية والأمنية المتراكمة التي كانت بمثابة (قنبلة موقوتة) تحمل في طياتها العديد من العوامل والمسببات، وتشتمل على بعض السياقات الموضوعية وعوامل التأجيج التي ستظل حاضرة مستقبلا مالم نجتثها من جذورها ونطفيء فتيلها، وهي:
- حالة اللادولة وضعف الحوكمة وغياب الحكم الرشيد، وسوء الإدارة وغياب الشفافية واستشراء الفساد والبطش والتنكيل والعنف والعنف المصاحب لحملات قمع احتجاجات سلمية مدنية شعبية، وغض الدولة طرفها عن صراعات قبلية ومناطقية وجهوية وتركيز جهدها في تأمين القصر الرئاسي في الخرطوم
- الانقسامات الاجتماعية والعرقية والجهوية والأيدولوجية التي قادت لانقسامات رأسية في الكيانات القومية وبنية الدولة ومؤسساتها ومرافقها، فالخلافات العميقة بين المجتمعات المختلفة وعجز الدولة عن إدارة التنوع وضعف مؤسساتها القومية، واستغلال أصحاب المشاريع الأيدولوجية ذلك الأمر، تسبب في اضطرابات اجتماعية وانفجارات سياسية، قادت لاصطفافات إثنية ضيقة في بعض الأقاليم، غذتها النعرات وحفزتها الجماعات الأيدولوجية( تنظيم الاخوان) الأمر الذي أدى لمجازر جماعية وتطهير عرقي وجرائم حرب وموجات هائلة من النزوح واللجوء.
- تضييع مكتسبات الفترة الانتقالية انعكس على الأزضاع المالية للمؤسسات والأفراد، وأدت العوامل الاقتصادية إلى استشراء نسب البطالة العالية، ما قاد لموجات تجنيد وعسكرة حتى لمن هم دون السن القانونية، كما قاد عدم التوزيع العادل للثروة، وتهريب عائدات البلاد، إلى بروز كيانات وأفراد وطبقة متخمة وشبكات مصالح أعدت كل سبل حماية واستدامة سلطة الانقلاب الذي حماهم من إجراءات الملاحقة الجنائية وعمليات استرداد الأموال التي اتخذتها حكومة الفترة الانتقالية، في ظل حالة إفقار متزايد لجموع الشعب السوداني الأمر الذي فاقم من حدة التوترات الاجتماعية وأدى إلى اندلاع المظاهرات واتساع دائرة الحراك المطلبي.
- الاستغراق والامعان في الارتباطات الخارجية وإذكاء الصراعات القومية، وخدمة المصالح الاستعمارية والاستغلالية لموارد البلاد، وخوف بعض دول الجوار من النداءات الاستقلالية والتحركات المناطقية التي تهدد تلك الدول وتحرك النزاعات التاريخية العالقة (ترس الشمال)، ومقابلة السلطة الانقلابية للأمر بالقمع والظلم الأمر الذي قاد لتوترات وعنف مستمر، وسيستمر حتى وإن توقفت الحرب، ما لم تتحرر السلطة من التوعية وتوقف إجراءاتها القمعية.
- في مناطق نائية تأثرت بموجات التصحر والتغيرات البيئية والمناخية، هناك أمم تشهد تدهور الظروف المعيشية وندرة الموارد الطبيعية وتصاعد التوترات والصراعات باضطراد، وتنشط فيها موجات النزوح والتسلح والاعتداءات على الموارد والمكاسب المادية والحيوية، وهؤلاء يمثلون أكبر معين للتحقيق العسكري حاليا ومستقبلا.
- غياب التنمية المتوازنة والمستدامة في البلاد غذى الشعور بالمظلومية، وتمت تغذيته بخطابات جهوية وعنصرية، وتغطيته بعباءة أمنية، وتم في ذلك استغلال إدارات أهلية وقيادات مجتمعية حشدت لصالح سلطة الإنقلاب، وقالت كلمة الحق التي أريد بها الباطل، ونظمت أنشطة إعاقة الانتقال، ودعم الانقلاب والتحشيد والتجنيد للحرب، وهذه المجتمعات ما لم تحظ بالتنمية والتعليم ستظل تحركها أيادي الغرض والمرض بوعي منها أو دون وعي وتجيشها لصالح وأد أي نظام مدني ديمقراطي قائم لأنها ستظل أداة طيعة في أيدي الأنظمة السلطوية.
● ثانيا: نحن لسنا بمعزل عن موجات مشابهة للأمثلة المعاصرة في السياق الإقليمي والعالمي، فجميع الثورات العربية في 2011م (الربيع العربي) في عدة دول عربية، والنزاع الدائر في سوريا منذ عام 2011م، والصراعات في العراق وأفغانستان، والانفجارات السياسية في فنزويلا وبوليفيا في أمريكا اللاتينية، وتوترات فرنسا وإيران في 2023م، جميعها تشكل أعظم دروس عرفتها البشرية في الكتاب المنظور، ومثلت فظائعها وانتهاكاتها تجسيدا للفوضى التي دونتها تقارير الأمم المتحدة حول السلام والأمن الدولي، وتقارير الأمم المتحدة حول التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتقارير منظمة العفو الدولية حول حقوق الإنسان وتقارير هيومان رايتس ووتش حول حقوق الإنسان، وما رصده موقع المنتدى الاقتصادي العالمي، والمراصد الوطنية لحقوق الانسان، واللجان الطبية في الدول، فضلا عن ملاحقات وتقارير المحكمة الجنائية الدولية، فجميعها شواهد لحالة الفوضى التي شهدتها المنطقة وتجسيد حي للجرائم التي لم نشاهدها.
● ثالثا: إن موجات الفوضى التي اندلعت في السودان لم تتحرك من الأطراف هذه المرة، وإنما انفجرت كالبركان من بؤرة النزاع (العاصمة) وتمددت لتجتاح المناطق والمدن والدول المحيطة وهو ما يعرف أيضًا بأعماق الدولة (Deep State) أو الانفجارات الاجتماعية والسياسية، وقد نوعت أشكال وأنماط هذه الموجات حسب الظروف والأسباب التي أدت إلى اندلاعها، وتفاوتت من منطقة لأخرى ومن دولة لدولة، لتمشل الآتي:
- التحركات العسكرية والموجات المسلحة نحو المدن خارج العاصمة بهدف اجتياحها والسيطرة عليها، كما حدث في ولايات دارفور الأربع، شمالا في الفاشر وكتم وطويلة، وغربا مسابح الجنية. ووسطا حصار والسيطرة على زالنجي، وجنوبا باعتداءات نيالا، وولايات بعيدة نسبيا من بؤرة الصراع كشمال كردفان وحصار مدينة الأبيض، وجنوب كردفان بتحركات الحركة الشعبية في مناطق (كادقلي والدلنج والكرقل)، وفي جنوب النيل الأزرق منطقة الكرمك، والتحشيد العسكري الصامت في الولايات المتاخمة للخرطوم في الجزيرة ونهر النيل والنيل الأبيض، التي ستجر تلك المدن لدائرة الفوضى.
- وتعد الاصطفافات والنزاعات القومية والعرقية والجهوية والإثنية، أسوأء موجات الفوضى القادمة، والتي يمكن أن تكون مدخلا حقيقيا لصراعات ونزاعات بين أعراق مختلفة أو بين مجموعات إثنية ضمن ولاية واحدة تؤجج الحرب الأهلية بين مكوناتها وتنسحب لجر الحرب بين دولتين أو أكثر، كما حدث في الجنينة، وتزايد موجات الاستغفار والتحشيد في ولايات أخرى.
- تبعا لذلك ستنشأ توترات سياسية واجتماعية داخلية، في عدد من الأقاليم ومناطق الانتاج الكبرى التي تضم عدد من القوميات، وتنشب بينهم موجة من الصراعات يصعب حلها بصورة سلمية أو مسيطر عليها بسلطة الدولة، وهس التي ستؤدي إلى نشوب صراعات مسلحة بين تلك المجموعات التي تسربت كميات من السلاح لها لأغراض الحماية، ويمكن أن تتصادم فيما بينها وربما مع أجهزة ومكونات وسلطات الدولة، وبالأخص مناطق التعدين الأهلي التي تضم ملايين الأشخاص من مختلف الأعراق في ولايات كالشمالية، ونهر النيل، والبحر الأحمر، وجنوب كردفان، وشمال دارفور، وبعض مناطق شرق السودان.
● رابعا: راح ضحية هذه الفوضى الآلاف من القتلى وأضعافهم من المصابين، وملايين النازحين واللاجئين والفارين من ويلات الحرب، جميعهم خرجوا من بؤرة الصراع الحقيقية، لبؤر فوضى افتراضية سابقة أو محتملة داخل البلاد، في تلك الأثناء لم يتحرك العالم إلا عبر بيانات الشعب والتنديد، متناسين قادته ما تم اتخاذه من إجراءات في حالات مماثلة، والقرارات الدولية التي تم إصدارها في محاولة للتعامل مع موجات الفوضى هي كقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، رقم 1970 و 1973 في عام 2011م، والتي تهدف إلى فرض حظر على السلاح وتنفيذ منطقة حظر جوي في ليبيا خلال النزاع الذي اندلع في تلك الفترة، وقرارات 1590 و1591 و 1593 وهذا الأخير أحال ملف دارفور ومتهميه للمحكمة الجنائية الدولية، هذا التأخير والتقاعس الأممي الذي لم يراوح مكانة البحث والتقارير والبيانات، هو أحد عوامل تمدد الفوضى واتساع دائرتها، ما سيضاعف الخسائر المادية ويزيد الرقعة التدميرية، ويزيد أعداد الضحايا.
● خامسا: نحو 90 يوم ونحن نمضي بسرعة ونتدحرج إلى حضيض الفوضى، ونشهد تراجع السلوك الإنساني الجماعي والفردي، وانحسار منظومة القيم والأخلاق السودانية، واستشراء أخلاق وروح قطاع الطريق نهبا وسلبا وقتلا واغتصابا وانتهاكا، وتهريبا للمقدرات والثروات، وانتشارا للجريمة المحلية والعابرة للحدود، وتجارة الأسلحة والمركبات والمخدرات والبشر، وهو ما يوجب أن يتحرك الجميع نحو الخلاص من هذه الحرب، وإنهاء حالة الفوضى بإيقاف أصوات المدافع واسكات فوهات البنادق، والخروج من الخنادق لأروقة التفاوض والحوار، والآن لا زال لدينا وقت وعدة أدوات وإجراءات يمكن اتباعها لإيقاف حالة الفوضى ووقف الانفجارات الاجتماعية والسياسية والحد من تأثيراتها السالبة على بقية ولايات السودان المختلفة، منها:
- التوافق الوطني حول رفض الحرب والاجماع حول التفاوض والحوار، كوسيلة فضلى ومثلى لإنهاء الصراع، وذلك باتباع منهج الحوار البناء والتفاهم بين الأطراف المتنازعة، وتشجيع التوافق الوطني والسلام العادل وصولا للمصالحة السياسية الشاملة.
- اتباع مناهج إدارة الصراع والحوكمة الرشيدة والديمقراطية، فالحوكمة الفعالة والشفافة، وإعمال المؤسسية والإصرار على مدنية المؤسسات وممارسة الديمقراطية، واحدة من وسائل إنهاء الصراع واستعادة الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد واستدامته.
- الشروع في استعادة فورية لمكتسبات الانتقال وبالأخص مشاريع التنمية الاقتصادية، وبرامج الدعم المباشر، وبرامج الغوث الانساني، والتركيز على خطوات التعافي والنمو الاقتصادي السريع وصولا للاستقرار المادي المستدام وتوفير فرص العمل وتحسين مستوى المعيشة للسكان، وجبر الضرر وتعويض الضحايا.
- العمل ضمن أطر قانونية ومؤسسية تستنهض كافة المؤسسات والمنظمات والهيئات العاملة في مجال حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وترسيخ مبدأ عدم الافلات من العقاب، والالتزام بحقوق الإنسان الأساسية وتقديم العدالة الاجتماعية والتساوي في فرص الكافة أمام القانون.
- حشد جهود إقليمية ودولية ودبلوماسية لتحقيق وبناء وحفظ السلام عبر تعزيز جهود التفاوض والوساطة التي يقدمها منبر جده (السعودي الأمريكي)، وتدعمه منصة الايقاد ومفوضية الاتحاد الأفريقي، والجهد الأخير لدول الجوار السوداني بالقاهرة، والتركيز على جهود بناء السلام من الأمم المتحدة، والتوسط الذي تقوده بعثتها بين الأطراف المتنازعة ودعم جهود ألترويكا والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة للتوصل إلى حل سلمي للنزاعات
● سادسا: أكرر دوما أن هناك العديد من النماذج الأفريقية واللاتينية والعربية والعالمية التي قامت بتبني الإجراءات عاليه، لوقف الانفجارات الاجتماعية والسياسية، ونزعل فتيل الأزمات والحروب ووأد الفوضى، على سبيل المثال، نماذج رواندا وجنوب أفريقيا والمغرب وتشيلي والأوروغواي، والتي كانت ناجحة في بناء السلام وتحقيق المصالحة الوطنية، وتقديم أفضل أشكال الحل للصراع الدامي، وأقصر طرق إنهاء الفوضى التي أطلت برأسها على بلدانهم، والواجب ليس استنساخ تلظ التجارب، إذ أن لكل دولة خصوصيتها، ولكن الأدنى هو استخلاص الدروس والعبر منها، والنظر إلى ما كانوا عليه وما آلوا له، وما كانوا سيكونون عليه حال استمرت الفوضى في بلدانهم.
● ختاما:
يقع على عاتقنا أفراد ومؤسسات الانتباه لهذه المخاطر، والانخراط الجماعي في عمل دؤوب يناهض هذه الفوضى ويوقف هذه الحرب، بجهود فردية وجماعية، واجب كل منا العمل في مضماره الذي يجيد اللعب فيه، وواجب القوى المدنية الحية والكيانات الثورية، النهوض من حالة الثبات واللافعالية إلى لعب دور كبير شعبي وتعبوي ضد الحرب، يؤسس للتعايش والتصافي ويقود حملات التوعية والإعمار والتعافي المجتمعي
وعلى الاقليم ولأسرة الدولية بما في ذلك المنظمات الإقليمية والدولية والمنظمات غير الحكومية، أن تلعب دورًا مهمًا في مساعدة الدول والمجتمعات المتأثرة بالانفجارات الاجتماعية والسياسية، وأن تقدم هذه الأسرة الدعم والمساعدة للمناطق المتضررة في العديد من المجالات بما في ذلك الأمن والتنمية والاقتصاد وكفالة ورعاية وصون حقوق الإنسان، وليس اللكتفاء بإصدار تقارير الأمم المتحدة حول السلام والأمن الدولي وتقارير حول تنمية المجتمعات المتضررة، وحول حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، أو حتى الاكتفاء بالادانات الدولية.
إن حرب التسعين يوم وتأثيرات موجات الفوضى التي ترتبت عليها ستكون مدمرة للسودان، وستشمل أوجه التدمير سقوط حكومات ولائية وأنظمة اتحادية، وربما تهدد حكومة السودان المركزية، والحكومات الجارة والشقيقة والصديقة، وتتسبب في المزيد من تفكك الأنظمة الإجتماعية والاقتصادية، وتهجير السكان، وتدهور الأمن، وتزايد الفقر والجوع، فالقائمون على هذه الموجات لن يكونوا فقط جماعات مسلحة أو قوى سياسية ذات تأثير قوي، بل ستتسرب إلى السودان جماعات متطرفة تنشط في مثل هذه الحالات.
عروة الصادق
١٥ يوليو ٢٠٢٣م
[email protected]
