حالة “اللامعيارية”

19

عين على الحقيقة
الجميل الفاضل

الجميل الفاضل

حالة “اللامعيارية” (2)

فاللامعيارية هي الحالة التي تقل فيها قدرة المجتمع على ضبط البوصلة الأخلاقية لأفراده.

حيث وضع هذا المصطلح لأول مرة عالم الاجتماع إميل دوركايم، الذي وصف فيه حالة تضاؤل التزام الناس بالمعايير إلى حدّ يتعطّل معه عملها، فتفضي بالمجتمع إلى الفوضى، والي الصراع التناحري، والي ارتفاع معدلات الجريمة والانحراف والانتحار، وقد تؤدّي إلى التفسّخ والانحلال.
بل قد تقود هذه الحالة في طور منها الي إنقلاب في معايير المجتمع من النقيض الي النقيض، كما هو الحال في السودان، الذي كانت تنظر مجتمعاته قبل حقبة “الإنقاذ”، بنظرة الريبة الي أية مظاهر ثراء تطرأ علي أي فرد من المجتمع بصورة مفاجئة أو غير مفهومة، ثم تراجع سؤال المجتمع عن مصادر كسب افراده، إلي أن أصبح الكسب وحجمه بغض النظر عن التدقيق في مصادره، معيارا للنجاح الشخصي عند قطاع واسع من الناس.
ولذا فإن المعايير البديلة التي تنشأ تبعا لبروز نماذج مصنوعة بعناية لكي تصبح قدوة، تناسب سياسات الدولة الرامية لبناء نمط اقتصادي اجتماعي جديد يتناقض جذريا مع القيم التقليدية للمجتمع، يقوم علي نظريات “التمكين” الفردي والجماعي، وراء سياج فقهي يحمي المنظومات الفاسدة، بذرائع شتي من بينها صناعة نموذج “المؤمن القوي” سلطة وثروة وجاه، تحت غطاء فقه السترة، وفقه التحلل إن دعي الداعي.
ويقول في هذا الصدد الباحث الدكتور النور حمد: “أن صلف الإسلاميين وغرورهم الديني الزائف قد صرفهم، عن أن يفحصوا أنفسهم فحصًا دقيقًا، ليقفوا على قصور معرفتهم، وضعف روحانيتهم، وعلى عموم معايبهم، التي تجل عن الحصر.
فهذا النوع من الصلف والغرور المُصمت، المتدثر بثوب الدين، نقيضٌ للحكمة. فصاحبه لا يملك إلا أن يكون أرعنًا ومستبدًا، بل وعنيفًا، يستسهل، في لا مبالاةٍ مذهلةٍ، إهلاك الحرث والنسل والدم والأرواح، في سبيل تحقيق أوهامٍ مدخولة.
فقد كان الإسلاميون السودانيون يظنون أنهم الأتقى، والأنقى، وأنهم المصطفين الأخيار، الأكثر استعصاءً على إغراءات الدنيا، والأكثر تجرُّدًا لنصرة الحق، وللعمل المخلص للصالح العام.
لكن، ما أن وصلوا السلطة، حتى انفجرت أمام أعينهم، براكين معايبهم، وطالعهم ضعفهم البشري، ورأوا، رأي العين، عدم اشتغالهم بجدٍّ في إصلاح أنفسهم.

لقد رأوا كيف انخرطوا، بكل قوة، في الولوغ في المال العام، وفي أكل أموال الناس بالباطل، وفي استثناء أنفسهم من حكم القانون، ومن سائر الضوابط المؤسسية للعمل العام، حتى أصبحت مؤسسية العمل العام، مجرد ركامٍ من طوبٍ منقوض، مبعثر.
وتقول نتائج دراسة كندية أجريت في العام (2010)، استهدفت (30) دولة حول العالم: “أن التغيير الاجتماعي والسياسي السريع على المستوى الكلي للمجتمع، كالانتقال السياسي من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي يرفع من معدل (اللامعيارية)، بين الأفراد في المجتمع، كذلك وجدت الدراسة أن اللامعيارية كانت مرتفعة عند صغار السن وغير المتزوجين وغير الموظفين، وأنه كلما زادت مدخرات العائلة وثقة الأفراد في السلطة: (الشرطة، والنظام القانوني، والحكومة)، انخفضت درجة اللامعيارية لديهم”.
علي أية حال، فمظاهر “اللامعيارية” تتجلي في ثلاثة مستويات:
هي مستوي اللا قانون، ومستوي اللا نظام، ومستوي اللا قاعدة، فإنعدام المعايير يرتبط مباشرة بالنظم المعيارية.
إذ أن أي خلل قد يصيب هذه المنظومة المشكلة للمعايير التي تنظم وتسير المجتمع، يؤدي هو مباشرة إلى إختلال البناء الاجتماعي ككل، ومن ثم ظهور حالة “أنوميا” أو ما يسمى باللامعيارية.

وقد تقود تلك الحالة لتطور تدريجي تراكمي لمفاهيم جديدة ذات مضامين صراعية أو ثأرية، تفضي في النهاية إلى الانحراف والتمرد على القانون، من خلال انعكاساتها الثلاثة: أولا على مستوى الفرد فتحدث له اغتراب، ثم الأسرة فتحدث فيها تفككا، واخيرا المجتمع فتصبه باختلال في سلم القيم والمعايير.
بما يؤكد كل ذلك في النهاية أن ما تجلي لنا في هذه الحرب من سلوكيات وممارسات وانتهاكات، لم ينشأ هو أيضا عن فراغ.
-ونواصل-

عين على الحقيقة
الجميل الفاضل

حالة “اللامعيارية” (3)

يبدو أن جهازا للطرد المركزي يعمل الآن بعنفوان وقوة علي مخض “الخام السوداني”، لفرز مزيج النيل، عن حبيبات رمال الصحراء، وعن ما تبقي من تربة أطيان الغابة، مثل هذا الفرز الدقيق لن يتوقف لطالما أنه قد بدأ بالفعل.
بل سيكون هذا الفرز مستمرا الي أبعد من مجرد، فرز كل بيض عن كل حميض، وفق وصف قائد الدعم السريع للحال داخل منظومته أو خارجها، لست أعلم.
لكن الذي أعلمه هو أن هناك ميكانزمات داخلية للفرز ستمضي بلا توقف نحو فرز كل بيض عن بيض أيضا، وكل حميض عن حميض كذلك، والي ما لا نهاية، سوي نهاية هذه الحرب.
وهنا يخامرني سؤال: تري هل كنا بحاجة لهذه الحرب، التي بات شأنها معنا كشأن دابة الأرض التي أكلت منسأة سليمان، لكي تخر كل تصوراتنا الكذوبة عن أنفسنا علي الأرض.
بمثلما سأل الشاعر محمود درويش نفسه يوما:
“هل كان علينا أن نسقط
من عُلُوّ شاهق،
ونرى دمنا على أيدينا
لنُدْرك أننا لسنا ملائكة
كما كنا نظن؟.
ثم معترفا يقول: “كم كَذَبنا حين قلنا: نحن إستثناء”.
قبل أن يمضي الي سؤال مقلق آخر:
“وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟”.
ثم أردف مستخلصا: “أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك”.
مضيفا أن:
“الهوية هي: ما نُورث لا ما نَرِث.
ما نخترع
لا ما نتذكر.
الهوية هي فَسادُ المرآة
التي يجب أن نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة”.
وفي هذه الصورة التي لا تعجب، ثمة أناس لا ينظرون وراءهم، ومن ورائهم سيأتي لا محالة برابرة آخرون.
إنها أسئلة تتري أوجز الرد عليها الباحث مختار خواجة في مقال بعنوان “إستعادة الأخلاق السودانية”، فالأزمة السودانية المتطاولة ما هي في حقيقتها سوي أزمة اخلاق ظلت تتفاقم حينا بعد حين، كان قد أشار لها الأستاذ محمود محمد طه قبل عقود من السنوات قائلا:
“إن أزمتنا هي في كلمتين: أزمة أخلاق، وإنني علي يقين بأنه لن يستقيم لنا أمر من أمورنا السياسية، ولا الإقتصادية، ما لم نجد العلاج الشافي لهذه الأزمة الأخلاقية”.
وفي سياق ذا صلة بالراهن مضي الكاتب فتحي الضو الي القول: “لقد قادني حدسي منذ وقت مبكر في تسمية الصراع الذي افتعله “الإخوان المسلمين” في السودان بمسمياته الحقيقية، باعتباره صراعاً أخلاقياً، وليس سياسياً، كما كان البعض يتصوره غفلة”.
المهم فقد شرح الكاتب “خواجة” حال سودان ما بعد الحرب بقوله:
“الأزمة السودانية الراهنة كشفت عن ثغرات كثيرة في بنية السلوك والأخلاق السودانية.
والحقيقة أن الإنسان السوداني لم يعش محنة حقيقية شاملة، ولم تشهد الخرطوم كارثة جماعية بهذا المستوى منذ قرن ونصف.
فأول ملمح للأزمة هو أن حشودا كبيرة تمارس ممارسات لا أخلاقية، تنهب وتسرق، متصورة أن هذا شيء مشروع ومقنن.
وثاني ملامح الأزمة هو أنه، وبعد الأيام الأولى للأزمة، وسريان روح التكاتف الجماعي بين الأفراد، فإن المجتمع ظهرت فيه نوابت سوء، لا يمكن إنكارها، فتجار الأزمات في كثير من المناطق قد تصرفوا بطريقة مخيفة لا تليق، مع انهيار النظام الاقتصادي.
ثم أشار خواجة الي أن الاكتفاء بالتمدح بالأخلاق التقليدية السودانية لا يكفي للحفاظ عليها في مواجهة التحديات والعقبات المختلفة، حيث لم يعد هذا التمدح مجديا. مشيرا إلي أن الأخلاق التقليدية السودانية، أخلاق الجماعة والقبيلة والتربية الريفية، هي بحاجة لقيم وسيطة فلسفيا، وبرامج تطبيقية واضحة لتفعيلها في البيئة الحضرية.
مردفا بالقول: أنه لابد في الوقت ذاته البعد عن الاقتصار على الحلول الإسعافية التي لا تنتج سوى أفكار مأزومة.
وفيما يتعلق بتجارب الحروب لدى الآخرين، قال: إن الملاحظ أن الناس تبدأ بالهرب تلقائيا مما يفترض أنه عامل الأزمة الرئيسي، علما بأن أي محاولة لإقصاء هذا العامل ستؤدي للتشوه في المقابل، فالجريمة ليست الانتماء للقبيلة أو للطائفة أو للإقليم، لكن الجريمة تبدأ من التصوير المبتور للتاريخ، أو التشخيص الموتور للواقع، وحينها فإن المؤسسات الاجتماعية تدفع الثمن، وتصبح أدوات بيد الأفراد أصحاب المصلحة، وليس أصحاب الأهداف النبيلة.
قائلا في الختام: إن هذه الحرب فرصة السودانيين في القرن الـ21 لصياغة مستقبلهم لبقية القرن، ومحاولة بناء السلام، واستدامته، وإلا فإن الأزمة المقبلة لن تبقي ولن تذر كما فعل الإعصار بآل بوينديو في “مائة عام من العزلة”.
-ونواصل-

عين على الحقيقة
الجميل الفاضل
حالة “اللامعيارية” (4 – 4)

قال رجل منا قبل عدة سنوات:
“إن وضعنا نصب أعيننا تجربة انفصال الجنوب وأستعار الحروب في الغرب والوسط لأدركنا أن تراكم الفشل سيقود حتماً إلى واحد من شيئين:
الأول هو الحساسية من النجاح (allergy to success)،
والثاني هو ذوبان الدولة (meltdown of the state)،
كلا الدائين سيسيران بنا لا محالة في طريق طُراد نحو الهاوية”.
إنه الراحل الدكتور منصور خالد محاولا إضاءة هذا الطريق الذي بلغنا منتهاه اليوم، لنتربع علي قاع هاويته، التي حذرنا (هيهات) من مغبة السقوط فيها منصور خالد.
علي أية حال، فقد كتب هذا المفكر السوداني مقالا استثنائيا في ظني، بعنوان “النواقص الذاتية”، قرع فيه ناقوس خطر “ذوبان الدولة” الذي يحدث أو كاد.
وهو مقال أجد الآن ضرورة ملحة لإعادة نشره كاملا غير منقوص، كخير ختام لسلسلة مقالاتي “حالة اللامعيارية”.
فالي الصورة التي رسمها قلم الراحل الدكتور منصور خالد:

“النواقص الذاتية”
د. منصور خالد

“البلاء الأعظم” أن كانت هناك بلوى أعظم مما سبق ذكره.
فهي النواقص الذاتية ومنها: نكوص جيل الآباء وجيلنا الذي لحق به عن الإعتراف بكل الأخطاء التي أرتكب وارتكبنا وقادت السودان إلى تهلكة، رغم أن الإعتراف بالخطأ هو أول الطريق لمعالجته.
تناسل أجيال من المعلقين والمؤرخين الهواة المفتونين بالماضي، وهو افتتان مشبوه.
فلو فتشت في قلوب المتظاهرين بالحنين إلي الماضي الذي يسمونه “الزمن الجميل”، لوجدتهم قد لهجوا بالثناء علي كل العهود التي أطلت علي السودان بعد ذلك “الزمن الجميل”.
هؤلاء يضفون على بعض رجالات الماضي ما هم ليسوا احفياء به من تكريم، وينعتون كل خيبات أولئك ب “الانجازات”، وينسبون لهم صموداً مزعوماً أمام التحديات، وما التحديات المزعومة إلا أداء الواجب المفروض عليهم.
تضخيم الذات للحد الذي قاد إلى طموح غير مشروع ثم إلى خيلاء فكرية.
تلك الخيلاء جعلت أغلب هؤلاء، لاسيما العقائديين منهم، يتظني عن يقين باطل بأنه مالك الحقيقة الأوحد.
الغيرة الجيلية وتلك عاهة ليست بجديدة، فأول من فطن لها في نهايات الحرب العالمية الثانية مؤرخنا العظيم مكي شبيكة وعبر عن ذلك في وثيقة وزعها علي أعضاء المؤتمر بوصفه سكرتيرا لمؤتمر الخريجين.
قال عالمنا المؤرخ: “أرى اليوم بينكم تباغضاً شخصياً وتحاسداً لا أدرى له سبباً مما يمنعكم من التوجه إلى أداء واجباتكم وما واجباتكم إلا التعاضد من أجل الوطن”.
تفشي تلك الظاهرة في جيل آباء الاستقلال، خاصة بين الموظفين وهم الفئة التي جاءت من داخلها الغالبية العظمى من المشتغلين بالسياسة.
مثال ذلك ادعاء كل من فاته الحظ في الترقي إلى الوظائف العليا أن ترقي الآخر كان بسبب رضاء المستعمر عنه وكأنه يعلى من قدر نفسه بالإيهام بأن عدم ترقيه يعود إلى أنه وطني شريف لا يحظي بدعم المستعمر.
فقدان التسامح الذي لا يميط اللثام عن الجهل بماهية الديمقراطية فحسب، بل يكشف أيضاً عن جهل مريع بمقوماتها حتى من جانب أكثر الناس ترداداً لهذه الكلمة الطنانه (buzzword).
فالديمقراطية تبيح للناس الخلاف فيما بينهم تاركة لهم مساحة يتحاورون فيها ثم يتفقون أو يختلفون ولكنهم لا يتجادلون في المسلمات أو يشتجرون حول القيم الإنسانية المشتركة، أو تحدثهم نفوسهم بأن رأيهم هو القول الفصل.
كراهية الآخر في السودان، خاصة بين نخبه لم تقف فقط عند الانفعالات العاطفية العابرة، بل صارت سلوكاً.
مثل هذا السلوك اعتبرته المسيحية خطيئة ففي إنجيل متى: “سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك.
وأنا أقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات لأن شمسه تشرق علي الأشرار والصالحين”.
شيوع البغض الشخصي للآخر وتلك الِخلة، من ناحية، هي ظاهرة مرضية ومن ناحية أخرى، عاهة خلقية.
فمن الناحية المرضية إعتبر سيقموند فرويد كراهية الشخص للآخر تعبيراً عن رغبة دفينة في تدمير الآخر باعتباره مصدر تعاسة له.
كتاب “الغرائز وتقلباتهــــــا”، (Instincts and Their Vicissitudes).
التفاخر بالوطنية وهو أمر مشروع في ساحات النصر.
كما فعل صديقنا الحبيب محمد المكي إبراهيم:
من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنىً أن يعيش وينتصر
من غيرنا ليُقرر التاريخ والقيم الجديدةَ والسِير
من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياةِ القادمة
جيل العطاءِ المستجيش ضراوةً ومصادمة
المستميتُ على المبادئ مؤمنا
المشرئبُ إلى النجوم لينتقي صدر السماءِ لشعبنا
جيلي أنا.
بيد أن في التفاخر الكاذب، (أي التفاخر بغير حق)، تشويه للتاريخ مثل قول الشاعر:
كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية
خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية.
نعم هؤلاء الأسود خاضوا اللهيب بجسارة كما قال الشاعر في صدر البيت إلا إنهم لم “يشتتوا كتل الغزاة الباغية”، كما جاء في عجز البيت.
من التفاخر أيضاً ما يشين السوداني أكثر مما يزينه وللصحافة دور كبير في تعميق هذا الاستفخار والتباهي الكاذب.
خذ مثلاً قصة الراعي السوداني الذي عثر على مال في السعودية فرده لصاحبه وهذا عمل حسن يستحق الإشارة إليه في أحدى الصفحات الداخلية بالصحيفة، ولكن في الإسراف في الحديث عنه على مدى أيام ضير كبير، خاصة عندما يصور الأمر كظاهرة لا نظير لها في العالم.
أولا يدرك أولئك المعلقون الذين تباهوا بذلك الحدث أن في كل محطة للسكك الحديدية أو مكتب للشرطة في أغلب دول العالم مواقع تسمى (Lost and Found) تودع فيها المفقودات التي يعثر عليها صدفة أحد مواطني تلك الدول.
وهل يدرك المعلق السوداني أن المواطن الأجنبي عندما يعثر صدفة على ملك لغيره لا يستأثر بما عثر عليه لنفسه وإنما يرده لأهله التزاماً بقانون أو عرف أرضي لا بموجب نهي سماوي.
ثم إلا يدرك المعلق أن عدم الأمانة عند المسلم من المعاصي المهلكات بل هو آية من آيات النفاق عند المسلم، لأن المسلم المنافق بنص الحديث هو من: “إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ”.
لا شك لدي في أن الذين تناولوا قضية الراعي السوداني بالسعودية لم يتناولوها كموضوع جدير بأن يروي كخبر وإنما كحدث بلا نظير.
ولئن صح ذلك التقييم فما رواة الأخبار إلا هاربون إلى الإمام من واقعنا المائل.
أوليس الأجدر، إذن، بالذين أوغلوا في المباهاة بأمانة راعي الضان السوداني في السعودية تدبيج المقالات عن “الرعاة” الكبار الذين آلت إليهم حقوق الناس كي يدبرونها ويصونونها “فما رعوها حق رعايتها”، مما ينأي بهم عن الذين جاء عنهم في التنزيل: “وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ”.
تحول التفاخر المشروع بين السياسيين إلى تضخم للذات تفيلت معه حتى القواقع اللافقارية.
اللافقاريات في علم الأحياء هي الكائنات التي تفتقد الفقار، أي السلسلة العظمية في ظهر الكائن، والتي تمتد من الرأس حتى العصعص مما يمكن الكائن من الوقوف والحركة.
تَضاعُف تفيل اللافقاريات عندما أصبح الانتماء العقدي لحزب أو جماعة جواز مرور لكل موقع مهني عالٍ، كان ذلك في الإدارات الحكومية أو الجامعات أو المؤسسات المالية والاقتصادية.
ولنعترف بأن تلك الظاهرة بدأت بصورة محدودة في أكتوبر (1964) تحت أسم التطهير، وتطورت في مايو بدعوى عدم مواكبة الثورة كما حدث في تطهيرات الجامعة والقضاء في مطلع نظام مايو، ثم بلغت حدها الأقصى بحلول نظام الإنقاذ تحت راية التمكين.
الإخلال بقواعد الحكم السليم في كل هذه الحالات لم يصدر من السياسيين وحدهم، بل أيضاً من المتطلعين لتلك المواقع من المهنيين والذين كان من المبتغي أن يكونوا أول المدركين لأن العالم الأكاديمي لا يصبح عالماً بنور يقذفه الله في القلب كحال المتصوفة، وإنما نتيجة لدراسات وبحوث وخبرات متراكمة.
تماماً كما أن الدبلوماسي لا يكون دبلوماسياً ناجحاً في دبلوماسيته، والطبيب بريعاً في طبه، والزراعي متقناً لزراعته، لانتمائه لتنظيم سياسي أو تظاهره بمثل ذلك الانتماء، وإنما لقدراته الذاتية في مجال عمله.
اختلال معايير التوظيف أتاح لمبخوسي الحظوظ من غير القادرين أن يتخذوا شعاراً لهم “الفات الحدود واسوه”، وعندما تصبح الحدود الدنيا هي القاسم المشترك لإختيار الرجال في أية أمة ولأي موقع فليصلي لأجل تلك الأمة أبناؤها وبناتها.
كل هذه العوامل تآزرت لتجعل من السودان أمة مطبوعة علي الفشل طالما أصبحت قيادتها مطبوعة عليه.
وعندما يقع الفشل مرة أولي قد يكون أمراً عَرَضياً (accidental)،
وعندما يتكرر مرة ثانية قد يكون مصادفة (co-incidental)، ولكن عندما يتكرر كر الليل والنهار يصبح ميلاً وجنوحاً نحو الفشل (tendency to failure).
هذه هي العوامل التي أكسبت نخبتنا السياسية قدرة فائقة علي تحويل كبريات الأماني إلى ما هو أدني قيمة من التـُفاف عندما واتتها الظروف إلى التمكن من السلطة.
تلك هي الحالة التي تستلزم وضع المريض في أريكة الطبيب النفساني، لاسيما بعد أن وضح لكل ذي عينين أن أي فشل جديد لن يقود فقط إلى فشل اكبر ، بل إلى ما هو أدهي وأمر.
فأن وضعنا نصب أعيننا تجربة انفصال الجنوب وأستعار الحروب في الغرب والوسط لأدركنا أن تراكم الفشل سيقود حتماً إلى واحد من شيئين:
الأول هو الحساسية من النجاح (allergy to success)،
والثاني هو ذوبان الدولة (meltdown of the state)،
كلا الدائين سيسيران بنا لا محالة في طريق طُراد نحو الهاوية.

أكتب تعليقـكـ هنــا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد