من بازل إلى الخرطوم: د.عمر الحريف يكتب عن إعادة الهيكلة … المعنى الذي ضاع

124

من بازل إلى الخرطوم: د.عمر الحريف يكتب عن إعادة الهيكلة … المعنى الذي ضاع

بروفيسور بدر الدين عبد الرحيم ابراهيم

تعليقًا على ما نشرته في مجلة حواس حول توجهات بنك السودان الجديدة، وبشكل خاص مقترح “إعادة هيكلة البنك المركزي لتعزيز كفاءته التشغيلية”، الذي أقصد به على وجه العموم تصحيح أوضاع البنك المركزي ليصبح أكثر قدرة وكفاءة في أداء دوره المنوط به، تبرز أهمية الإصلاح كأولوية قصوى في ظل التحولات الاقتصادية العميقة التي يشهدها السودان والتحديات التي فرضتها مرحلة ما بعد الحرب على مؤسسات الدولة.

فالبنك المركزي ليس مجرد مؤسسة نقدية، بل هو مؤسسة إدارية لإدارة موارد الجهاز المصرفي ومستشار رئيسي للحكومة، ويشكّل قلب الاقتصاد وعمق النظام المصرفي، بالإضافة إلى كونه مركز توازن السياسات المالية والنقدية. كما يلعب دورًا محوريًا في تنظيم المصارف ومؤسسات التمويل الأصغر، وضمان استقرار القطاع المالي، واستعادة الثقة فيه.

على الرغم من أنني كنت أقصد إعادة الهيكلة في المصرف المركزي، حيث يختلف تطبيق إعادة الهيكلة بين البنك المركزي والمصارف التجارية رغم وحدة المفهوم العام، إلا أن الهدف الأساسي واحد وهو رفع الكفاءة وتحسين الأداء. ففي البنك المركزي، تهدف إعادة الهيكلة إلى تعزيز الكفاءة المؤسسية، والحوكمة، والاستقلالية، وتحديث الهياكل التنظيمية والأنظمة التقنية لضمان أداء وظائفه الرقابية والسيادية بكفاءة.

أما في المصارف التجارية، فتتركز على تحسين الربحية والاستدامة التشغيلية من خلال إصلاح الأوضاع المالية، وإدارة المخاطر، وتطوير الأنظمة، ورفع كفاءة العاملين والفروع. مفهوم إعادة الهيكلة في البنوك المركزية يختلف قليلاً عن المصارف التجارية، إلا أن الهدف العام يظل واحدًا.

وفي هذا السياق، أعتبر تعريف د.الحريف الشامل مهمًا للغاية لتعزيز دور المصارف التجارية بعد الحرب. تعليق د. الحريف لم يكن مجرد مداخلة نظرية، بل قراءة فنية عميقة أعادت تعريف مفهوم “إعادة الهيكلة” في سياقه المؤسسي الصحيح للمصارف التجارية، وربطت بين التجربة السودانية في التسعينيات والمعايير الرقابية الدولية الحديثة.

بتعريفه المفصل لمفهوم “إعادة الهيكلة” من منظور مهني وفني عميق، أوضح د. عمر الحريف أن إعادة الهيكلة لا تقتصر على تخفيض العمالة أو خفض النفقات كما يُفهم أحيانًا بشكل ضيق، بل تمثل إصلاحًا مؤسسيًا متكاملًا يشمل الجوانب الإدارية والمالية والفنية والقانونية. فهي تعني إعادة بناء المنظومة من الداخل — إدارةً ومالًا وتقنية وحوكمة — لتكون المؤسسات أكثر كفاءة وقدرة على أداء مهامها الحيوية.

بهذا الطرح، يفتح د. عمر الحريف نافذة حوار جادة حول جوهر الإصلاح المصرفي في السودان، وكيفية الانتقال من الشعارات إلى التطبيق المؤسسي الفعّال الذي يعيد للبنك المركزي دوره القيادي في توجيه المسار الاقتصادي الوطني. كما ربط د.عمر الحريف بين تطور المعايير الرقابية الدولية، مثل اتفاقيات بازل 1 و2، وبرنامج “توفيق الأوضاع” الذي نُفذ في السودان بين 1994–1997، حيث ظهر لأول مرة مصطلح إعادة الهيكلة بمعناه الشامل. وأوضح أن إعادة الهيكلة تتناول أربعة محاور رئيسية:

الإدارية: الهياكل التنظيمية، الكادر البشري، التدريب، والأصول الثابتة.

المالية: رأس المال التنظيمي والاقتصادي والودائع.

الفنية: النظم المحاسبية (Core System) والتقنيات المستخدمة.

القانونية والحوكمة: الإدارة القانونية، المراجعة، والنظام الأساسي للمؤسسة.

وأشار إلى أن المفهوم قد أُفرغ مؤخرًا من محتواه الحقيقي، وأصبح يُستخدم كشعار لتبرير تقليص العمالة في مؤسسات تعاني أصلاً من ترهل إداري وتوظيف بالعلاقات لا بالكفاءة. ودعا إلى تطبيق إعادة الهيكلة بالمعنى المؤسسي الكامل، بدءًا من بنك السودان المركزي ثم الجهاز المصرفي بأكمله، خصوصًا في ظل التضخم العددي للمصارف دون كفاءة هيكلية أو رأسمالية كافية، وهي الظاهرة التي لخّصها بقوله: “لدينا عدد بنوك يفوق الحاجة الفعلية”.

وختم بأن معالجة هذا الخلل تتطلب إصلاحًا جذريًا يقوم على الكفاءة، والتدريب، والحوكمة السليمة، وليس على المجاملة أو التوظيف بالعلاقات.

يُعتبر تعليق د.عمر الحريف إضافة نوعية وقيّمة للنقاش حول إعادة هيكلة المصارف التجارية في السودان، ويستحق الدراسة والتطبيق ضمن جهود إصلاح القطاع المصرفي وتوجهات بنك السودان الجديدة.

فقد أعاد طرح مفهوم “إعادة الهيكلة” من منظور مهني عميق، مبرزًا العلاقة بين التجربة السودانية السابقة وبرامج الإصلاح العالمية، لا سيما اتفاقيات بازل ومعايير الكفاءة الرأسمالية والإشراف المصرفي، بما يعكس رؤية متكاملة تفهم أن إصلاح البنك المركزي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحديث النظام المصرفي بأكمله.

كما أبرز د. عمر الحريف مشكلة “التضخم العددي للمصارف”، مشيرًا إلى أن كثرة البنوك، خصوصًا إذا كانت رؤوس أموالها ضعيفة وفق التصنيف العالمي، لا تعكس قوة النظام المالي بل قد تضعف كفاءته في غياب الحوكمة والرقابة المؤسسية.

إن دعوته لتطبيق إعادة الهيكلة في المصارف التجارية بمعناها المؤسسي الشامل تمثل منهجًا إصلاحيًا علميًا وواقعيًا، وتشكل نقطة انطلاق أساسية لإعادة بناء القطاع المصرفي السوداني، خصوصًا في مرحلة ما بعد الحرب التي تتطلب كفاءة، شفافية، وانضباطًا مؤسسيًا حقيقيًا.

أخيرًا، يتضح أن تنفيذ ما جاء في خطاب محافظ بنك السودان أمام مديري البنوك، بما في ذلك إعادة هيكلة المصارف والبنك المركزي، يستلزم بداية إعداد دراسة موضعية شاملة (Situational Study) للوضع الحالي للقطاع المصرفي والبنك المركزي، لتحديد نقاط القوة والضعف والفرص والتحديات.

وانطلاقًا من نتائج هذه الدراسة، ينبغي وضع مصفوفة استراتيجية خمسية دقيقة تشمل الأنشطة والإجراءات والسياسات الإصلاحية، مقسمة حسب السنوات والأولويات، مرتبطة بمؤشرات أداء قابلة للقياس، مع تحديد فترة زمنية لكل نشاط، والتكاليف، والجهات المسؤولة، ودورية رفع التقارير.

هذا النهج العلمي المرحلي يضمن متابعة التنفيذ المنتظمة، ويقدّم نتائج متسقة وفق الأهمية والأولوية، على عكس الطريق الحالي العقيم الذي ينفذ السياسات دون ترتيب أو رقابة صارمة، مما يصعّب قياس المتحصلات والمتابعة الدقيقة.

باختصار، اعتماد الاستراتيجية يجعل الخطة أداة عملية لتعزيز التطوير المؤسسي، وتحقيق الكفاءة التشغيلية للبنك المركزي، وإحداث التغييرات المطلوبة في المصارف ومؤسسات التمويل الأصغر بطريقة منهجية وعلمية وممرحلة وفاعلة.

أكتب تعليقـكـ هنــا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد