الأخبار

تقول لي شنو؟!

جعفر عباس .. كُر علي يا أبوي !!

85

من الأسافير

جعفر عباس


عندما استعين بأحد عيالي كي يشرح لي أمرا يتعلق بالكمبيوتر او الآيفون، أرى بعض الشماتة في تعابير وجهه: معقول يا أبوي ما عارف كيف ال… بيشتغل؟ ولو ذكرت جانبا من ذكرياتي هنا وهناك في السودان، يحسبون انني نشأت في العصر الحجري: معقولة يا ابوي ما كان عندكم كهرباء ولا دش في الحمام؟ (وأصلا لم يكن هناك حمام في بيتنا)، وكنت فرحان لما بقيت تمشي المدرسة بالحمار؟ وجدك سيد أحمد ترك للورثة 12 حمار (نعم لأنه كان ارستقراطي)،

واشتغلت وانت طالب في مختبر مستشفى وتستلم العينات؟ (نعم وكنت استلم عينات الفسحة في علب سجائر برنجي وتعلمت فحص السكر في البول بالنظر)، واشتغلت برضو بياع جزم في دكان باتا في كوستي؟ (نعم وكانت مكافأة نهاية الخدمة جزمة جلد أصلي)، وأرى تعابير وجه عبير تقول: كُر عليك يا أبوي


ولعيالي وغيرهم من أولاد الهِرمة (ما معنى هِرمة) أقول إنني اعتز كثيرا بتنوع تجاربي في الحياة، وسعيد لكوني توقفت في محطات كثيرة: كوستي وبدين والبرقيق وأرقو ودنقلا ووادي سيدنا وبحري وسنار وسنجة عبد الله ومروي والبركل وشندي وكبوشية والدامر والمحمية (يا الهجروك عليا) وبربر وأتبره والأبيض وام روابة والرهد وكتم والجنينة والفاشر وسنار، وطفت في منطقة الجزيرة في سنوات رخائها عندما عملت بتلفزيون الجزيرة الريفي.

وسافرت باللوري من بدين الى ام درمان وشربت شاي في قهوة ام الحسن وعانيت من الحسكنيت في رمال أبو ضلوع المتحركة، وقعدت في سقف القطر من الحصاحيصا الى جبل مويه، وركبت قطار مشترك الأبيض ونيالا عشرات المرات، وركبت الحافلات من الخرطوم الى كوستي عديد المرات متوقفا في القطينة التي زرتها مرارا وتنقلت فيها بين فريق الدناقلة وفريق الجعليين وفي كليهما وجدت اهل العلم والفكر والثقافة


وأنا الذي كنت اتسلح بالمسطرين في بداية كل خريف لسد الشقوق في بيتنا في كوستي، حتى صارت يدي خشنة كالمُبرد، عملت مدرسا بالمرحلة الثانوية ومترجما وضابط اعلام في السفارة البريطانية حيث تعلمت ربط الكرافته، ثم مخرجا تلفزيونيا، ثم نجحت إحدى طالباتي في “تكتيفي بعمل كارب” وتزوجتني، وبعد ان حملت بطفلنا الأول هاجرت ملتحقا بأرامكو السعودية ومنها الى قطر ومنها الى الامارات ثم عدت الى قطر ومنها الى بريطانيا ثم عودة الى قطر الى يومنا هذا

ورغم ان الله مد في ايامي وحضرت عصر الأكلات ذات الأسماء الرنانة، إلا أنني ما زلت ابن القراصة والكسرة و”الملاح” وأجمل الفواكه عندي هي التمر والبطيخ والشمام والموز، وكان كل ما نأكله من لحوم وخضار في سنوات النمو عضويا organic ليس فيه تلوث بالسماد الكيميائي أو المبيدات الحشرية.

وعندما انتقلنا الى البندر عرفنا الباسطة ومن لم يأكل باسطة بابا كوستا لا يعرف شيئا عن الباسطة الحقيقية، وشربت الكوكا والبيبسي والفانتا والميرندا والشاني واللويزو والسينالكو والحرية وشيكان كولا (في الأبيض) ودبُل كولا وبزيانوس وماونتن ديو، وكرهت السيفن اب والسبرايت، وانتقلت من الدندرمة الى آيسكريم باسكن روبنز وهاغن داز وركبت طائرة فوكرز وبوينغ وايرباص.

وعلى المستوى الوجداني نعمت بصداقة عمالقة الفن الغنائي محمد وردي ومصطفى سيد احمد، والشعراء محجوب شريف وحميد وازهري محمد علي وهاشم صديق والقدال تقول لي شنو؟ والله لو كان ممكنا ان تعود بي عجلة الزمان الى الوراء لما اخترت غير نفس الخريطة والمسار، رغم ما كان فيه حفر ومطبات من بينها السجن والبعد عن وطن أحب فيه كل شيء: البشر والحجر والنهر

منقول

أكتب تعليقـكـ هنــا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد