الأخبار

جعفر عباس يكتب: أُمِّي كانت “أبي” أيضاً

جعفر عباس يكتب .. من الأسافير

43

جعفر عباس


عندما زارتنا امي رحمها الله في الدوحة “الأصل” عام 1997 اكتشف الأطباء ان قلبها ينبض نحو 25 مرة في الدقيق فزودوها. بجهاز تنظيم ضربات القلب وسألوها: كيف حالتك الآن يا حجة؟ فقالت لهم: أنتم أطباء فاشلون فما زالت ركبتي تؤلمني وتعيق حركتي.

وبعد سنوات من عودتها من قطر تعطل ذلك الجهاز وتم بحمد الله تزويدها بآخر جديد، في مستشفى خاص في الخرطوم، وكان من المفترض ان تبقى في المستشفى لعدة أيام “تحت المراقبة”، ولكنها سببت صداعا لإدارة المستشفى مطالبة بالسماح لها بالعودة الى البيت.

كنت أتابع أحوالها عبر الهاتف، وسمعتها أكثر من مرة تصرخ: اطلع بره يا بنت (نوبية تذكر وتؤنث على كيفها) فتقول لي اخواتي الجالسات قرب سريرها ان “بره” موجهة الى الممرضة الفلبينية! ممرضات فلبينيات عندنا في السودان؟ يا بختنا.

كلية التمريض العليا التي تخرج ممرضات بدرجة البكالريوس افتتحت في الخرطوم عام 1959، ومدرسة التمريض المتوسطة عمرها قرابة قرن، ونستورد ممرضات من الفلبين! ما هي الخطوة التالية؟ شرطة مرور من اندونيسيا؟ اخصائيات نقش الحناء من هولندا؟ كيف لبلد يصدر العمالة بالملايين ان يستورد عمالة؟

ورغم ان أمي كانت تعاني من كوكتيل من العلل، إلا أنها لم تكن تشكو علنا إلا من وجع في الركبة ! وفكرت في هذا كثيرا وعدت بذاكرتي الى الوراء. إلى ايام الطفولة والصبا: كان والدي يعمل في مدينة كوستي في وسط السودان بينما كنا في جزيرة بدين في شمال السودان.

وعلى مدى 13 سنة متواصلة كانت أمي هي المناط بها رعايتنا في المرض والعافية: تحرص على التأكد من ان كل واحد منا ينتعل حذاءه ليلا تفاديا للدغات العقارب.. وطوال الليل كانت تروح وتجيء لتتأكد من أن أجسامنا مغطاة بإحكام تحسبا للبرد الصحراوي..

كان السوق يتنظم مرتين في الأسبوع فتسير على قدميها نحو 12 كيلومترا جيئة وذهابا لتأتي لنا باللحم ولوازم الطعام. وإذا مرض أحدنا تظل مرابطة قربه تلمس جبهته كل بضع دقائق. وامرأة اعتادت على الحركة والاعتماد على النفس لابد وان يضايقها العجز عن الحركة.


كانت معظم نساء بلدتنا يتولين أعباء تربية العيال في غياب الآباء، فالمنطقة النوبية التي انتمي اليها صارت طاردة لأبنائها لضيق الأراضي الصالحة للزراعة، وبالتالي لم يكن امام معظم الرجال من سبيل سوى الهجرة الى مصر او وسط السودان.

ولكن التكافل والترابط الاجتماعي والأسري كان قويا بدرجة انه لم تكن هناك “شؤون خاصة” فأمور الزواج والختان والمرض والسفر والدارسة يتم البت فيها جماعيا. وكل عمل كبير يتم بالنفير الجماعي

في الأمسيات كانت نساء الحي يجتمعن في أحد البيوت للونسة، وكان بعضهن يحكي لنا عن الغول والعفريت والجن الأحمر. والليل عندنا في شمال السودان يتميز بظلام سميك كالدوامة يدور ويفور فتفقد توازنك وأنت تمشي فيه، وكانت في طرف كل حي خرابة يتخذ منها الجن مركز قيادة ويدبرون المقالب المرعبة لبعض من لم يحفظوا آية الكرسي.


المهم انني نشأت في مجتمع كانت النساء يقمن فيه بالزراعة ورعاية الحيوانات والطبخ والنظافة ورعاية الأسرة. (وبحمد الله لم يكن هناك من يسألنا عن الواجبات المدرسية)، كنا نستيقظ مبكرين لأن نساء الحي كن يفدن الى بيتنا حاملات الصفائح والجرادل للتزود بالماء، فقد كانت في بيتنا المضخة اليدوية الوحيدة في الحي لتوفير الماء شبه النظيف، وكان لتلك المضخة ذراع يدوي طويلة يتم تحريكه الى أعلى وأسفل لضخ الماء عبر فوهة كبيرة..

وفي مجتمع كهذا عليك مساعدة المرأة العاجز بأن تتولى عنها ضخ الماء ثم توصيله الى بيتها.. وكان علينا ونحن صغار ان نحلب الماعز، ثم نخرج بها ل”الرعي”.

وكلما خرجت الى مناسبة من مناسبات النفاق الاجتماعي مرتديا جاكيت وكرافتة، تذكرت ان بين المهارات التي اكتسبتها في صباي توليد الأغنام إذا داهمها المخاض. يعني كلما رأيتم ابو الجعافر على شاشة تلفزيون او في منتدى وهو يتكلم وكأنه عبقري زمانه تذكروا انه “داية/ قابلة” أغنام مؤهل. وما خرجت به من تجربة تلك الطفولة هو ضرورة الاعتماد على النفس وأن “الناس بالناس” ومن يَعِن يُعَن.

أكتب تعليقـكـ هنــا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد