الأخبار

هوامش على دفتر البرقيق الوسطى

جعفر عباس يكتب

45

✒️جعفر عباس

خلال مرحلة البرقيق الوسطى حدثت لي طفرة اقتصادية وصرت برجوازيا لأن أهلي كانوا يعطونني ريالا (10 قروش) أسبوعيا، وكنت لذلك قادرا على شراء الطحنية من دكان سعيد مِسْكِن أو محمد أونقي، وشراء فواكه من سوق البرقيق الذي كان ينعقد كل يوم اربعاء، وكنت احرص على توفير بعض الكاش لأشتري ولو مرة في الشهر علبة عسل أبو أسد الإنجليزي
Lyle’s Golden Syrup وبالمناسبة ما زلت اعشق هذا العسل حتى يومنا هذا، واستمتع به مع القراصة المسماة “بان كيك” مع بعض السمن او الزبدة، وكنت اعود الى البيت كل خميس مشيا على الأقدام عبر كرمة البلد ثم وادي خليل حتى كرمة النزل ثم نعبر النيل بمركب موناب، أي بدون شراع. “موناب” أصلا هي المعزة التي بلا قرون، وكنت حريصا على أن أدخل على إخوتي الصغار حاملا شيئا يحبونه: طحنية او جوافة او منقة الخ، وفي رحلة العودة الى المدرسة عصر الجمعة كنت في غالب الأحوال احمل على رأسي كيسا به قرقوش وتمر (الى يومنا هذا أحرص على شرب شاي الصباح بقرقوش خميرة اللبن التقليدي)
ثم ظهر سجائر اسمه أبو نخلة، وكانت العلبة منه تباع ب3 قروش فعملنا “ختة/ صندوق” نحن ستة أشخاص دفع كل منا نصيبه تعريفة واشترينا علبة وجلست ذات عصر على ترعة المشروع الزراعي واشعلت سيجارة، وكل همي هو ان أخرج الدخان من الأنف كما يفعل الكبار، وأخذت شفطة وأغلقت فمي ونفخت عبر الأنف كي يخرج الدخان، فإذا به يتسرب الى جيوبي الأنفية ويشعل نارا فيها، وصرت أكح واصرخ، ثم فقدت توازني وسقطت في الترعة العملاقة، وغطست وتسلل الماء عبر أنفي فزادني ألما، وسبحت خارجا وانا مغطى بالطين واضطررت الى الجلوس على الترعة حتى هبوط الظلام لتفادي ان يراني مدرس على ذلك الحال لأن المدرسين كانوا يشاركوننا مختلف الألعاب عصر كل يوم، وهكذا فشلت أولى تجاربي مع التدخين وتأجلت حتى المرحلة الثانوية وظهور البرنجي الذي كانت العلبة منه تباع ب5 قروش، ومن باب ضغط المنصرفات كنا نتشارك كل شخصين أو ثلاثة في السيجارة الواحدة فيما كان يعرف بالتخميس، وأصل الكلمة ان يشترك خمسة اشخاص في السيجارة الواحدة
كنا في الداخلية نتناول 3 وجبات كبيرة يوميا في مواعيد معلومة وكانت كل وجبة بحضور مدرس مناوب، وكان هناك حرص شديد من إدارة المدرسة على تناولنا كوب اللبن الطازج في وجبة العشاء قبل الشروع في الأكل، وكان صديقي السموأل أحمد خليفة من أرقو (حاليا طبيب في بريطانيا) يأتي من أهله بنوع من الكعك هش ولذيذ للغاية، وينصحني أحيانا بعدم الشبع الشديد في العشاء كي افسح مجالا للكعك، وأرقو ودنقلا بها عدد هائل من ذوي الأصول المصرية، ونسميهم فلاليح (جمع فلاح)، وليس “حلب”، وذلك باعتبار انهم “أسياد بلد” أصيلون منذ أكثر من قرنين، وهم مشهورون بإجادة الطبخ والخبز، بل ان الفلاليح هم مؤسسو دنقلا (العرضي)
في ذلك الزمان كان الطالب وفي جميع المراحل مكلفا فقط بالزي المدرسي والمنزلي فقط، بينما كانت الدولة توفر له الكتب والكراريس وأدوات الهندسة ومن بينها قلم رصاص 3H للرسم الهندسي، وعندما كنا في البرقيق ظهر قلم حبر التروبن في أيدي أبناء حفير-مشو الذين كان لمعظمهم آباء مغتربون في السعودية، وأذكر جيدا ان نور الدين سيد علي (شاعر مجيد كتب قصائد ذائعة الانتشار باللغة النوبية لزكي عبد الكريم وغيره، ويقيم حاليا في جدة بالسعودية)، كانت لديه ساعة عقرب الثواني فيها طائرة، وكان المحظوظ منا من يسمح له نور الدين بارتداء الساعة لبضع دقائق.

أكتب تعليقـكـ هنــا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد